(بطاقة)
أماني الغالي الجعلي الحسين أحمد عمر صديق (29 أكتوبر 1963- 31 أكتوبر 2019م)، والدتها أم الكرام محمد أحمد حاج العاقب (الصغير، حفيد الكبير). تخرجت من كلية التجارة بجامعة القاهرة فرع الخرطوم (نحو 1986م)، وعملت بديوان الضرائب فوصلت لدرجة مفتشة، ومديرة مكتب فرعي بأم درمان.
أماني دنيا من العطاء والمحبة والأمومة الرؤوم، كتب ابن شقيقتها وائل فتح الرحمن في عيد ميلادها قبل عامين: (يامنارة حلمنا السلمنا للايام وبقيتي ليه تميمة، يا أمانينا وحكاوينا ومطرنا و غيمة).. (كل سنه طيبة يا أمنا الرحيمة).
(الفزع).
قبل الثانية عشرة منتصف ليل السبت 7 سبتمبر 2019 رنت بكري أمان فلم أجبها لأني كنت مع الحبيب، ومن ثم أخبرتني أن أمها أماني تعرضت لحادث وهي الآن في مستشفى علياء. منذها والقلب يخفق بالفزع، ويتأرجح بين الأمل، والرجاء، والدعاء الحثيث، وتترى عليه الدروس.
كل يوم يذاكر معنى أماني وينتظر خروجها سالمة، مزمعاً التوبة عن كثير، والأوبة لكثير، ومضمراً الوعد: يا أماني لقد أدبني هذا الحادث، وسوف ترين خلقاً جديداً. مرّ عيد مولدها هذا العام أيان الفزع فدعوت: تسلمي يا ضي العين يا معاني الخوة/ يا الريدك محكر في القلوب من جوة/ يا الخير يا العطا المتوالي ما قال سوّى.. لكن الفزع لم يسفر إلا عن أن “أمانينا الجميلة حلت الآهات مكانها”.
(العبور الفخيم)
قبل الثانية عشرة منتصف ليل الخميس 31 أكتوبر كان العبور الأليم لنا، الفخيم لها نحو دار خلودها بين يدي رب رحمن رحيم، يمطر موكبها سيل من الدمعات والدعوات، وتحفه شهادات الأهل والأحباب والجيران والزملاء، شهادات علق على مثلها حبيبنا المختار عليه الصلاة والسلام بقوله: وجبت! ومن ثم شرح: “أَثْنَيتُمْ علَيْهِ خَيرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ”.
قال الحبيب الإمام الصادق المهدي: (كانت خير تجسيد لمقولة نبي الرحمة:”خَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا مِنَ الْبِرِّ شَيْءٌ : الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَالنَّفْعُ لِعِبَادِ اللَّهِ”. وكانت تقية ووطنية. وكانت في أسرتها العميدة، وفي عملها لزملائها القدوة، وفي نهجها جامعة بين التأصيل والتحديث، وفي انتمائها الوفية لكيانها الدعوي ولكيانها السياسي. لم تكن لها ذرية خاصة، ولكنها تبنت المجتمع كأنه ذريتها. سيرة طاهرة تجعلها من القانتات).
(الولاية)
كانت أماني أيقونة للصبر، صبر تجلى في أيامها الأخيرة فبعد الحادث المشؤوم تألمت كثيراً، ولكن إذا سألتها ما كانت تقول إلا الحمد لله، وإذا اشتد الألم تقول: آمنت بالله. وترثى لحال من حولها: أتعبتكم معي، وكلنا كان يود لو حمل عنها الوجع. وإثر العملية التي أجريت لها يوم الجمعة 13 سبتمبر اعتذرت للطبيب: اعف عني أحضرتك يوم راحتك، وقد عبر عن دهشته لجلدها ففي مثل حالها لا ينتبه المرضى لشيء آخر سوى معاناتهم.
قال أخوها عبد الرحمن، قلت لها: إنك من الصالحات، وصبرك على هذا البلاء سوف يردك لنا بمنزلة الولاية. وأخبرني مؤخراً: “كنتُ أزمعت حينما تعود أماني للبيت ألا أستقبلها إلا حافياً”. قلت: سبحان الله، فبعد العبور، قضينا الليل كله نتلو القرآن قرب جثمانها الطاهر، كنتُ حافية وما استسغت أن انتعل إلا محبتي ودعائي حتى غادرت الدار. كأنني اطلعت على نيته ونفذتها بالحرف.
دعت أختي زينب رباً عليماً: “يا رب يا إلهي..كانت أماني صادقة صديقة فارزقها أعلى مقامات الصديقين، وكانت راضية رضية فاكرمها بعطفك ورضوانك، وكانت ولية فابعثها يا إلهي مع الأولياء في منزلة الشهداء”. اللهم آمين.
(موتوا .. قبل ان تموتوا..)
لقد جربت أماني ثلاث من ميتات أهل الله الأربعة التي وصفها الإمام المهدي: الموت الأبيض وهو الجوع، فما كانت تأكل إلا كالزهاد، والموت الأسود وهو تحمل أذى الخلق، والموت الأحمر وهو مخالفة النفس في شهوة أغراضها، وتمثل الصدق والصبر وارتباط القلب بالله.
في رثائي لصنوها، والدتها أم الكرام حاج العاقب رحمها الله، تتبعت كيف حققت روشتة والدها الورع القائل (نعم العنا وقافى، عاف وطن النفوس والروح عرف قافها) فقد أدارت ظهرها لأغراض النفوس وتوطنت في الروح، وقلت: أماني هي الأشبه بأم الكرام.
إن فيها من لطفها وإحسانها وصدقها واستقامتها وفضلها، وحنانها وطيبتها ورحمتها للضعيف وللصغير، وبرها الشديد بوالديها، ومحبتها الموزعة على العالمين عامة والتي تربط بالخصوص قلوب أخوانها وأخواتها وذراريهم، والصبر الأسطوري الذي يظنونه مقتبساً عن راحلة أسلافهم الصحراوية، ولسانها العف عن خوض في مساويء أو مجاراة لعدوان، وخلوها من أمراض النفس التي أماتتها.
نعم.. أماني ظلت روحاً، وعبرت روحاً باقية. ها هم أحباؤها يجتمعون ليعزموا: حزننا على شخص كأماني ينبغي أن يكون إيجابياً مثلها: أن ننشيء جمعية باسم “أماني” ونحيي القيم التي عاشت لأجلها، أن نطعم الجائع ونسند المحتاج وننشر الأمل.
وما لا يستطيعه سوى أماني ذلكم الإيثار والتضحية، وحرق العمر ليضيء للآخرين. كتبت في العرفان لزميلها أزهري كمبل المشهودة نجدته للزملاء: (اعلم أخي أن وجودك في كل الأماكن يقابله وجودك داخل مسامنا وأرواحنا)، وهذا ما ينطبق عليها هي فعلاً وصدقاً.
كانت علامة للخيرية والإحسان، وقد رثاها الحبيب مولانا باكر الياس وهو يخطب في مسجد الملك فهد بالهجرة يوم الجمعة الذي حملوها فيه قائلاً ما معناه إنها من خيرة النساء. وأقول: من خيرة الناس رجالاً ونساء.
(السحر والعذوبة)
حينما كتبت “عشر حواش على متن أم الكرام” قبل أكثر من عامين تطرقت لذريتها فقلت: (في أماني كل شيء تقريباً مما يسحر النفوس ويجذب، وكلمة (سحر) ذكرها أحد مموليهم في ديوان الضرائب حيث تعمل، قال: لا أدري كيف دفعتُ كل ما دفعت، بنتكم هذه سحرتني!، أماني الصغرى التي هي أم وحاملة هم الجميع، وكانت أمي رحمها الله تقول: أماني صاحِبْتِي، والشكولُ أقاربُ!)
لأماني فعلاً خلطة ساحرة: الأمل الذي تبعثه فيمن حولها بابتسامتها وبتهوينها كل قاسٍ بالقول وبالفعل، والوعي والمسؤولية التي تتناول بها صغائر الأمور وكبائرها، والدعابة المحببة التي تستل بها صور المعاني وحكاويها، والقدرة العجيبة على خلق الصداقات وتأليف القلوب بشكل يحطّم قيد النوع فصداقاتها من الرجال والنساء كلهم يجعلونها المقربة الأولى.
سحرٌ رباني شهدته بأم عيني وهي تعامل الباعة في الأسواق، والناس على قارعة الطريق، وأصدقائي وصديقاتي الذين جمعتهم بها في “واحتنا الخضراء”. حاضرة البديهة ملتفتة لكل شخص ولأحاسيسه تطببها، متأهبة دوماً للمساعدة، مخزن محكم للأسرار، مستودع دائم للحكمة والمشورة..
أما زملاؤها في ديوان الضرائب فقد أسهبوا في ذكر مآثرها من تجرد واستقامة وتواضع وأدب، وعن فنون المعاملة، قال أحدهم: أماني علمتنا كيف يكون التعامل مع الناس، وقالت أخرى: أماني (ما حصل دقت تربيزة لممول، كانت إذا قال أحدهم لا أقدر، تقول له: قدرتك يا ابوي)، وقالت ثالثة: كان الممولون إذا قابلهم أحدنا بما يسيء يقول: لماذا لستم مثل أماني؟ ونظم زميلها علي الطاهر الصديق شعراً:
متواضعة وحشيمة وست أدب موروث
ما شافوها بــــــدروب الحسد بتكوس
ضو البهــــــــرة وقاد أخجل الفانوس
عندها احترام الناس دروس وطقوس
كانت حلوة المعشر، صبوحة الوجه طليقة الابتسامة طيبة، وطيبتها من عجب مخلوطة بهيبة.
إذا زرتها تحتفي بك وتكاد تحملك من على الأرض كما وصفت الحبيبة رشا عوض، تجلس إليها فلا تمل، وكما قال المهدي عليه السلام في مجالسه: “الزول الشي الحابه الزمن الطويل يبقاله قصير”، وغنى ود الأمين: الغريبة الساعة جمبك تبقى أقصر من دقيقة..
رثتها الحبيبة زينب الصادق بعنوان “الأماني العذبة”، وقال أزهري كمبل: “لم تكن أماني خلال حياتها القصيرة إلا نهراً من العذوبة لا تخالطها شوائب”.
(الجمال والطيب..)
كتبت زينب: “رحلت أماني وتركت ألوان زهورها وفتايل عطورها وظلها الأخضر”..كانت حفية بالجمال وبالطيب، تحب الأحجار الكريمة وتتقلدها زاهدة في الذهب والفضة على نهج الصدّيقات المهدويات في عهد الدعوة الأول. كانت تحب اللون الأبيض في الحوائط والملايات وفي ثيابها كأنها لا تعيش في ديار (سموم وسوافي)، تسعى الزروع وتخضر ما حولها.. تحفظ مصطفى وعقد الجلاد وتدندنهما بصوت كأنه من مزامير داؤد.. روعة لا تمل من الجلوس إليها، محبة لا تملك أن تحدد أطرافها، عذوبة لا يدانيها منظور..
كانت هي الجمال.
(أم درمان تنتبه..)
كم كان شاقاً على الجميع حينما “اعتقل المشفى باقة الأماني” على حد تعبير كمبل. أما العبور، فقد قال مرتضى أخوها، البليغ، إنه يعجز عن وصفه. وبكى الناس بحرقة مشهودة، ونادرة، قالت إحدى زميلاتها وهي تتقطع بكاء وتضع يدها على صدرها: “أماني كتلتني.. يا ناس أنا قلبي فيه شي”.. وقالت زهراء، الشيخة، التي عملت معهم عقوداً بلهجة أهلنا في الجنوب: كلام أماني دة أكعب من شي..
شيءٌ في القلوب ليس كأكلان محمد المكي إبراهيم. ولا كالحرقان، “أكعب من شي”. فالحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. عبرت للضفة الأخرى لتلحق بشقيقها مؤمن رحمه الله، الذي سبقها ببضعة أسابيع وهي لا تعلم برحيله خشية أن تتأثر به ويؤثر على صحتها وهي بالعناية المكثفة.
قال أزهري كمبل إنها علامة فارقة لسيدة المدن أم درمان، وقال (رحلت أماني وترملت أم درمان ودخلت بيت الحبس)..
لعل أم درمان قد انتبهت.. والناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، فلربما انتبهت المدن..!
النحيب الذي لفّ المكان هز ضمائر عديدة.. شريط الأقوال والأفعال. الاعتبار. العظة..
لعل عبورك يا أماني كذلك علامة فارقة لكثيرين، علامة لخلود المعاني التي أكدها وجودك خلسة في حياتهم وحياتهن، علامة للحقيقة الأزلية التي نهرب منها وهي أننا في مقطورة مسرعة نحو المحطة الأخيرة، وأننا غادرنا الآن أبرز “المحطات الحنينة القصرت مشوار سفرنا”..
اللهم يا جليلاً ليس في الكون قهر لغيره وليس في الكون يد لسواه، ولا إله إلا إياه، قد كانت أماني تقية ورعة صديقة ذاكرة صائمة، كانت حشيمة كريمة عفيفة لطيفة رحيمة، طيبة محسنة تقضي حوائج عبادك وتسعى في رضوانك، اللهم فارض عنها وارضها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، واجمعنا بها في شفاعة حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم، واجعلنا على سكته كما كانت، واجعل لها لسان صدق في الآخرين، وأحيي معانيها من بعدها، واربط على قلوبنا فلا تفتنا بعدها، وارنا عظة العبور، واجعل الشوق الحارق برداً وسلاماً، مخلوطاً أبداً بصالح الدعوات لها، ولأرواحنا نوراً لا ناراً، ودالاً إلى طاعتك والرضا بقضائك وقدرك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وإنا لك وإنا إليك راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بك.. والحمد لله رب العالمين.