في إطار الإهتمام المتزايد للشارع السوداني بالسياسة عقب الثورة وما يدور داخل الأروقة الرسمية للدولة ، هذا الإهتمام الذي يُعتبر ظاهرة إيجابية رغم أنه في الكثير من الأحيان يعمل على (تشويش) الإتجاهات الصحيحة في تحليل الوقائع والسبب يرجع إلى أن معظم تلك التحليلات تصدر من غير إختصاص ودون معلومات صحيحة وموثوقة ، وقد كان البعض وما زالوا يتندَّرون بمقولة أن كل سوداني قادر في لحظةٍ ما ومكانٍ ما أن يكون (مُحلِّلاً) سياسياً أو إقتصادياً خصوصاً إذا إنتابته نشوة النقاش والحوار السياسي الذي عادةً ما يدور في أماكن التجمعات العامة وبيوت المناسبات ، على سبيل المثال تنتشر هذه الأيام الأحاديث والنقاشات حول توجُّه الحكومة الإنتقالية عبر نشاطات رئيس وزرائها ووزير ماليتها لبذل المزيد من الجهود في مجال فتح آفاق للتعاون الدولي وخصوصاً الأوروبي والأمريكي للمساهمة والدعم في مشروع إنتشال السودان من وهدته الإقتصادية التي لا يخفى على أحد مستوى سوئها وعُمق وتعقيد مشكلاتها الرئيسية والفرعية ، هؤلاء ينتقدون التركيز و(التعويل) على هذا التوجُّه ويدعون في ذات الوقت إلى ما أسموه (الإعتماد على الذات) ومحاولة تحريك عجلة الإنتاج ودعم قطاع الصادر ، أي بمعنى آخر الإستغناء عن كل دعم خارجي مُرتجى والإكتفاء بمجرَّد دفع الهمم وإستقطاب الطاقات الداخلية من أجل الحصول على (موارد) تعمل على إنتشال الإقتصاد السوداني من متوالية الركود وحتى نكون أكثر قرباً من الحقيقة والوضوح علينا أن نتفق على تسميتها (متوالية الإنهيار) المُنظَّم.
سبق وأن تعاملت حكومة الإنقاذ البائدة في بداياتها وبالتحديد مطلع التسعينات بذات (المعالجات) الهُتافية والمهرجانية التي هي في الحقيقة وعبر قراءة واقع الأسواق العالمية وما تحتاجه الصادرات الدولية من سِمات ومواصفات تنافسية أصبحت هباءاً منثوراً وأحلاماً واهية أضاعت عبر آليات الفساد وسوء إدارة الموارد معظم البنية التحتية التي كان يتكيء عليها رغم قصورها قطاعي الزراعة والصناعة ، نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع كان شعاراُ هتافياً إنقلب واقعهُ الميداني إلى النقيض ، حيث إنكمشت في عهد الإنقاذ الرقعة الزراعية الإستراتيجية عبر هدم وتدمير مشروع الجزيرة والفاو والرهد وغيرها من المشاريع ، ثم إستشراء الفساد وتحويل موارد الصمغ العربي إلى مصالح شخصية يتنافس حولها القطاع الخاص دون الدولة ، فضلاً عن ما حل بالصناعة في السودان وتوقف آلاف المصانع الكبيرة والمتوسطة والصغيرة بسبب السياسات الخارجية لدولة الإنقاذ البغيضة وما تبع ذلك من مشكلات متعلِّقة بقطع الغيار والتمويل والضرائب والجمارك والجبايات الجائرة.
بإختصار على الذين يتحدثون عن الإعتماد على الذات في تحقيق ناتج وطني إجمالي عبر رفع مستويات الإنتاج ، أن يُقروا بأن ذلك لن يكون إلى عبر (إعداد وتهيئة) البيئة الإنتاجية السليمة التي تُتيح تحقيق نتائج مضمونة وغير قابلة (للتخمين) وحدوث (المفاجئات) ، هذا الإعداد يتطلب الكثير من المال ولا سبيل إلى ذلك على الأقل في الوقت الراهن غير إستقطاب الدعومات الأجنبية و(فتح الأفق) السياسي والإقتصادي لتعاملات السودان الدولية عبر معالجة مشكلات الديون الخارجية ووجود إسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب ، الهتافية لن تصنع واقعاً يتناسب مع (آمال) الجماهير ، فالتعاون الدولي هو أساس حركة التنمية المستدامة في كل البلدان النامية بما فيها تلك التي أكملت تأسيس بنايتها التحتية وهيأت بيئتها الإنتاجية ، نعم السودان غنيٌ بالموارد ولكن إنتاجها بالواصفات (المُجديه) التي يطلبها السوق العالمي يتطلب المزيد من السعي الجاد نحو أوروبا والولايات المتحدة لترتيب شراكة إستثمارية حاضنه لتحقيق نتائج إيجابية (مؤثرة) في مشكلات الإقتصاد السوداني.