الصول عبد الله شريف ابوبكر وداعا
الصول صبر عبد الكريم وداعا
يستحقان تعظيم سلام، واحد من الضفة الشرقية، والآخر من الضفة الغربية للنيل الخالد، والاثنان جاءا من الجيش وعرفا بالصرامة واللين معاً عندما عملا في المدارس الثانوية… وكان صبر صولنا فى مدرسة الدبة الثانوية بسيطاً وطيباً، لم نره يعاقب طالباً؛ لأنه لا حاجة أصلاً للسوط فى تلك المؤسسة ، كون الجميع طلاباً ومدرسين وعمالاً وشجراً وجماداً بما فى ذلك رمل الطريق وصهريج المياه يمشون على سينجة عشرة خوفاً من حضرة الناظر!!
وكان صبر ( وناساً) و عدواً للثرثرة داخل فناء المدرسة فى آن، يوزع علينا ملحه ونوادره بالتقسيط إذا ما صادفنا فى بيت أستاذ عكاشة أو في السوق، وكان عطوفاً مع ابناء منطقتنا، يعاملنا كأب خاصة وأن جميعنا جاء لتلك المدرسة بقرار من ناظرها الهمام عكاشة أحمد على .. والراحل عكاشة نفسه كإنسان وتربوي عظيم يحتاج لتكريم مستحق، وليت (شدة) التى ارتبط بها أكثر من اقترى بلد أبيه تطلق اسمه على إحدى مدارسها، بخاصة بعد زوال طغمة الإخوان التى كان يناصبها العداء علناً، حيث كان ينظم صفوف المعارضة فى دنقلا أثناء رحيله فى مطلع التسعينايت.
وفى يوم وفاته استعظم احد التربويين خسارتهم بوفاة عكاشة، وقال لى إن عكاشة عندما يأتى لوزارة التربية في الخرطوم لم يكن يتحدث باسم مدرسته وحدها، بل باسم مدارس الشمالية كلها، ولا يغادر الخرطوم الا بعد حصول كل مدارس المديرية على نصيبها من المعينات!
ويبدو لى أن هذا المعلم الفذ ربما كان يربط إيمانه بشعار (التعليم كالماء والهواء) بالإدارة القوية التى تحمى وتدافع عن هذا الحق الإنسانى! للأسف منذ أوائل الثمانينيات لم أر صبر سوى مرة واحدة فى سوق دلقو، حيث استقر هناك بعد زواجه، وتوفى فيها قبل ايّام حسبما نقل لى قريبى سرى فاروق سعيد .. رحمة الله تغشاه.
جلست إلى عمى عبد الله شريف أبوبكر مراراً داخل السودان، لكن عندما جاء إلى أميركا زائراً قبل سنوات اكتشفت شخصاً آخر عبارة عن سحارة ذكريات وكنز معلومات.. هل الهجرة الى الشمال ما يجعل شفاهتنا وكلامنا الساكت والبكم الاختياري فى السودان تتهتك أم أن السرد تحكمه شروطه المجحفة داخل السودان أم اأه المزاج العام ؟!
كان عمنا عبد الله شخصاً طموحاً وكان انقلابياً، واتهم بالاشتراك فى انقلاب الكد، وفصل من الجيش، والحق صولا ًبإحدى المدارس الثانوية فى أمدرمان، وحكى لى تفاصيل لم نقرأها لا فى المذكرات ولا فى كتب التاريخ عن ملابسات تلك الفترة التى شابتها المغامرات العسكرية.. وفى كل مرة يبدد فيها غشاوتى بمعلومات طازجة أعاجله بسؤالى : لمصلحة من تظل مثل هذه المعلومات طى الكتمان، ويأتى رده: أن الكل يفضل الاحتفاظ بتكتيكاته سراً؛ لأنه قد يضطر يوماً للجوء إليها !!! والشاهد أنك عندما تنصت لعمنا عبد الله وهو يتنقل من حادثة لأخرى، ومن مشروع انقلاب لآخر ومن تشريح الشخصيات العسكرية وتصنفيها بحذاقة، وكشف طرق التجنيد ببراعة، تحسب الجالس أمامك جنرالاً فى الجيش، وليس مجرد جندى ارتبط فى مخيلتنا بالضبط والربط وأداء التحية العسكرية، وأظن أن الوعي الكبير الذى تميز به عمنا عبد الله جاء معه من الشمال، و قد يكون الشعور بالمسؤولية خاصة لولد بكر مثله في أسرة كبيرة وفر له الحساسية والدقة والانضباط منذ الصغر، يجول بك عمنا عبد الله فى ربوع أورجو بين انين السواقى وأسمار مزارعيها الفقراء وسخريتهم .. وبذاكرة فوتوغرافية وذهن صافٍ يستعرض أمامك حادثات الدهر ونوايبه فى اقترى ودلقو وسعدنكورتة وقصص وحراك الأولين وحكاياتهم وأساطيرهم، علاوة على المعرفة التامة بالأنساب وتداخل العلاقات البينية لناس قرانا، يكفي أن تختار له خبط عشواء أياً من شخوص ذلك الزمان لكى تنهال أمامك ببليوغرافيا أي منهم فى سهولة؛ متبوعاً بمعلومات دقيقة تنزل عليك رب رب رب .!!
وربما بسبب خلفيته التى تشكلت فوق الساقية فى جو أريحية مزارعى ذلك الزمان امتاز عمنا عبد الله بالهدوء والرصانة والاتزان وطول البال التى لم يتخل عنها، حتى عندما انتقل الى البندر، فكان خير ممثل لنا هناك وخير معين لأهلنا ! وحسناً فعلت داس بتكريمه وهو حي؛ لأن جمايله على الناس لا حد لها منذ غابر الأزمان، وكنت سأحبذ عند تكريمه أن نوثق له، والشيء نفسه طلبته مراراً من ابنه محمد … حرام ان تمضى حكاوى عبد الله شريف بلا تدوين .. وحرام أن تقلب صفحة كفاحه فى الخرطوم لأكثر من ستة عقود من غير توثيق يتيح للأبناء والأحفاد فى ربوع داس التمعن فيها والاستفادة من دروسها .!!
في ظهيرة يوم خماسيني في رمضان المنصرم عدته، وبدا هو مترقباً زيارتى له، ظننت أننى سأقول لذاكرته افتح يا سمسم فينفتح بربخ الحكاوي بمعلومات من بيت الكلاوى، لكن انحسار صوته لم يمكن الجنرال إلا من ترديد كلمات العزاء، وإسداء النصح . قبلت راْسه مودعاً بقلب كسيف وعبرة خانقة !
رحمة الله تغشاه.