انتهى أخيرا زمن المتاجرة بالايدلوجيا وانتهى جدالها البيزنطي، الذي طالما أرهق الوطن وكلفه ارتال من الأرواح والدماء والموارد التي اهدرت سدي فيما لا طائل منه، وافقدها وقتاً غالياً طالما تبدد في صراعات فكرية من أجل الجدل قادت الي حروب عبثية..
انتهى الزمن الذي كانت تتصارع فيه التيارات السياسية والفكرية على قضايا جدلية بيزنطية لا علاقة لها بواقع حال الناس ومعايشهم وهمومهم اليومية. ووصلت تلك المعارك الي طريق مسدود بعد ان اورثت الوطن الخراب، ضيعت اجياله وفرقتهم واحرقت ثرواته وقسمت أرضه وانتهت به في ذيل قوائم الأمم من حيث التنمية والتطور والحكم الرشيد.
ولم يسلم من دفع الأثمان حتى قادة تلك التيارات الجدلية المقيتة، أين عبدالخالق محجوب واين الشفيع الشيخ واين قادة مايو من السياسيين والعسكريبن الذين ماتوا في ريعان شبابهم. واين محمود محمد طه واين الترابي واين المئات من شبابهم الذين استشهدوا في معارك وصفها الترابي بالعبثية وغير المقدسة، واين الالاف من كوادر هم المخلصة الذين كفروا بالفكرة بعد أن رؤوا حصاد الهشيم.
واين الذين ماتوا بالعشرات في بيت الضيافة وبحروب العدم في جنوب السودان وفي غرب السودان، وكانوا ينحدرون من كل اقاليم السودان. دخلوا الي تلك الحروب الحمقاء بعد أن تم تدجينهم تحت طائلة الخطاب العدواني العدمي المنغلق.
الحمد لله ان تلك التيارات العدمية قد أخذت كل الوقت وكل الفرص والزمن حتى اعياها الجدال وانهكها الصراع والي ان فقدت المنطق وشهد اغلب كوادرها عليها بعوار الفكرة وسوء المنهج. ووهذا واضح في كتابات الأفندي وحسن وعبدالقادر والحبوب عبدالسلام والتراب نفسه.
انتهى الزمن الذي تاجر فيه الحفاة العراة بالايدلوجيا وقبضوا الثمن وتحولت حالهم الي نعيم وعيش رغيد، حتى إذا أصبح الصباح وانكشف غبار المعارك ظهرت حقيقتهم لتقف شاهدا قويا على عوار الفكرة وكذب القائمين عليها من خلال الإرث الوطني المنظور الخائب الذي تركوه من خلفهم، وطن محطم واقتصاد مدمر وشعب متنازع.
لقد ضاع على السودان وقتا طويلا قارب الثلاث ارباع القرن جله كان في هذا الجدل العقيم، والذى انطلق قبيل الاستقلال وامتد في أشكال وصور مختلفة، ولكن نتائجه كانت واحدة، خراب متصاعد للموارد وضياع للانسان وللدولة وللنظام.
بدأت التيارات الاشتراكية السودانية قبيل الاستقلال بابناء العمال والفقراء والذين كانوا مبهورين بالنظريات الاشتراكية التي خاطبت واقع تلك الطبقات وسحرتهم بتبنيها لشعارات المساواة وقيادة الطبقة العاملة للدولة وضرب الراسمالية والامبريالية، وما ان انقشعت شمس الحقيقة عن مايو، دولتهم التي قاتلوا وقتلوا من أجلها، حتى رأينا ابناء العمال وقادة الاشتراكية السابقين المساكين، قد اصبحوا هم رؤوس الأموال الوسيطة وقادة البرجوازية الصغيرة الحديثة، وانقلبت الآية فأصبح كل منسوبي الحزب الشيوعي والاحزاب الاشتراكية الأخرى في أواخر مايو وبعدها هم من ابناء الراسمالية الحديثة التي كنزت مال الدولة بعد أن استثمرت في تجارة ذلك الجدل العقيم.
وتكرر نفس السيناريو ولكن بشكل أسوأ عندما انقلبت جماعات الإسلام السياسي بذات السيناريو على الدولة بعد أن تمكنوا من المال العام واوغلوا فيه بلا وازع ولا زمة. فغابت عقولهم، واحترقت ضمائرهم وتبخرت الشعارات الزائفة التي طالما أحرقوا تحت ظلالها الشباب والدولة. وتلاشت الفكرة تحت سطوة النزوات الدنيئة. واستبدلوا في ثلاثين عام من التمكين كل شعارات الزهد والرحمة والعدل، بواقع لا علاقة له بالدين وما جاء من قيم ومثل.
الآن فقط يستطيع الوطن ان يمضي نحو المستقبل بوعى وعقل ووفق الحسابات الواقعية والمادية ليتحسس أول خطواته في الطريق الذي يفضي الي الاستقرار والتقدم والتطور وبناء دولة المواطنة القائمة على العدل. الدولة التي تتعامل مع المواطن على اساس الحقوق والواجبات ووفق المؤهلات المنظورة لا الآمال المتوهمة والصورة الكذوبة..
ان الدولة لا تدخل الانسان النار كما قال الأستاذ محمدأحمد المحجوب ولكنها يمكن ان تخرجه من النار عندما تحفظ نفسه وتعينه على الاستقرار والكفاية، فيعبد الله على بصيرة وبلا وجل فيحسن دينه.
ولذلك فان الاولوية في العهد الجديد يجب أن توجه الطاقات لبناء الدولة وحفظ النظام وحماية المجتمع وفق قيم وأسس محددة. ويجب العمل الجاد للاستفادة مما تبنته غيرنا من المجتمعات التي نجحت في بناء دول مستقرة ومتطورة ومنفتحة على المزيد من التقدم.