على حكومة حمدوك وعبر وزارة الصحة أن تنظر إلى ما حل بالقطاع الصحي والطبي في السودان خارج أسوار (الإنهيار الشكلي) لتدلُف إلى ما أصاب (المضامين) في ما يمكن أن نُسميه أهم رافد قومي يعمل على (تقويم) و(بناء) وإعداد الطاقة البشرية القومية عبر صيانة قُدراتها وطاقاتها وعافيتها ، والموضوع يمكن أن يُصاغ ضمن ما أصاب التعليم في السودان على مستواه العام عبر الإهتمام بالكم على حساب (الكيف) و(الجدوى) ، فحكومة الإنقاذ البائدة ظلت وعلى مدى ثلاثون عاماً تعتبر التعليم مجرد شعار سياسي يساعدها على (تغييب) أذهان الناس عن ما يحدث من مآسي في مضماره ، وما نقصده بالإنهيار الشكلي هو ما جرت العادة على وصفه في الكثير من المنابر المتخصصة والأجهزة الإعلامية بـ (سوء الإدارة والتخطيط) ،
والذي أفضى بنتائج كارثية على هذا القطاع المبكي على ماضيه الناصع ، أهمها تشريد الكفاءات الطبية والصحية ودفعها دفعاً للخروج من البلاد بحثاً عن واقع مادي ومهني وأخلاقي يتناسب مع قيَّم المهنة الطبية ، وقد بدت الصورة الشكلية في (هدم) المنظومة الطبية في السودان بتفكيك وشرذمة المؤسسات الطبية العريقة كمستشفى الخرطوم بدعوى توزيع الخدمة ومنع تمركزها في موقع جغرافي معيَّن ، دون إعتبار إلى الضرورات الفنية والمهنية واللوسجتية التي تفرض هذا التمركز ،
يُضاف إلى ذلك الحال المذري لمستوى البيئة الصحية في القطاع الطبي العام وتجريدهُ من كل الأدوات التي تُعينه على تقديم خدمة طبية (مبدئية) تليق بإنسانية المواطن السوداني ، هذا فضلاً عن كارثة إعلان ثورة التعليم العالي التي جعلت كل مبنى في الخرطوم يتكوَّن من أربع أو خمس طوابق يتحوَّل بقُدرة قادر إلى كلية طب ، يتم تصديقها وترخيصها وفقاً لقواعد التمكين (الإقتصادي) لفلول المؤتمر الوطني ، وبلا أدنى ما يتطلَّبهُ ذلك من مواصفات متعارف عليها دولياً والتي كانت آخر أوجُه إلتزام السودان بها قبل ما يقارب الـ 60 عاماً عندما أُفتتحت كلية غردون الطبية متزامنة ومرتبطة بإفتتاح مستشفاها (التعليمي) المُسمى الآن بمستشفى الخرطوم.
أما إشارات (هدم المضامين) في القطاع الطبي والصحي بالسودان ، فتتمثَّل في ولوج آلة الفساد عبر الإستهتار بأرواح البشر وعافيتهم ، حين تخلو كليات الطب الإستثمارية من أبسط مقوِّمات الحصول على إجازة وإعتماد الدارسين في هذا الضرب الدقيق من العلوم ، فالمكتبات وحسب رأي المختصين يمكن وصفها بأرفًف للوثائق الثقافية أكثر من كونها مخطوطات ومراجع علمية ، وأغلبها بلا مشارح وإن وُجدت فهي غير كافية لحصول ذاك الكم الهائل من الطلاب على ما يجب معرفته في هذا الباب.
ثم دلفت معاول الهدم في (لمضامين) لتعمل على إرباك هيكلة الإختصاصات والأعمال الميدانية في القطاع الطبي ، فإختلقت (بدعة) الدراسات العليا ونيل درجة الماجستير والدكتوراه في كلية التمريض العالي وإتباعها لجامعة الخرطوم ، ليتحوَّل منتسبو مهنة التمريض من كوادر (فنية) قادرة على تلبية الحاجيات الصحية وتنفيذ التعليمات الطبية ، إلى كوادر (أكاديمية) تتنافس على نيل الشهادات و(الهروب) من المضمار الفني والمهني المُعتاد لمهنة التمريض ، فأصبحوا يُزاحمون الأطباء وينافسونهم في (قيادة) وتوجيه دفة الملف الطبي ، وفي ذات الوقت فقد الأطباء والمرضى الكثير من الإشتراطات والمواصفات التي تستهدفها فنيات مهنة التمريض ، على وزير الصحة إن ينظر إلى ما وراء الستار ويدرُس مخاطر (هدم المضامين) الطبية والصحية في السودان وله أن يستعين في ذلك بمجلس إستشاري يضم قدامى الأطباء مُضافاً إليهم جهة الإختصاص في وزارة التعليم العالي.