منذ وقتٍ طويلٍ جداً ترسّخت لديّٙ قناعةٌ ثابتة -مثل كل السودانيين- أن هناك أشخاصاً معدودين علي أصابع اليد الواحدة هم من يشكّلون مركز القرار الفعلي في الخرطوم، وهم من يتحكّمون في مصائر البلاد والعباد، وأنهم يتعاملون مع السودان كعِزبة خاصةٍ بهم أولاً وأنهم لا يأبهون بأحدٍ ثانياً..ولقد وصل كلُّ أهل السودان لهذه القناعة المريرة بإقتناعٍ تام.. فأصبحوا لا يهتمون بما يجري هناك داخل القصر وما حوله من أحداث -المفروض أنها تهم الوطن- إلّا بمقدار إهتمامِهم بأيِّ دراما مثيرة تشد الإنتباه ويحلو التفرُّج عليها بشوق ومتعة وإندهاش من النوع الذي يطلق عليه جيلُ هذه الأيام دراما (الشمارات).. وبهذا الصنيع فقد أراح الشعبُ السوداني نفسٙه -بكل أسف- مما يمكن تسميته (عبث وفساد القصر) ومن ثمّٙ أراح (القصرٙ) من تجشُّم مشقة إيجاد تفسير لكل ما يجري هناك من هذا العبث..
والآن وقد تمّت إزاحة الفريق طه من مسرح الإحداث بصورة دراماتيكية غامضة ومُريبة فالحقيقة الواضحة هي أن (حكومة القصر) غير معنية بتفسير ما جري ولا شرحه ولا تبريره لهذا الشعب (المغلوب علي أمرِه).. ولقد كان هذا ديدنها وطبعها من قديمٍ وما يزال.. سوف لن تأبه لما يقوله الناس لا في أمر ِالفريق طه ولا في أيِّ أمرٍٍ آخر، فالعِزبة عِزبتُها والأولاد أولادُها ومراكز القوي المتصارعة داخل القصر مراكزُها فما دخل الشعب السوداني إذن في كلِّ هـذا؟! ولماذا يريد أن يحشر أنفه ويتطفّٙل في أمرٍ لا يخصُّـه؟؟!!!
وهذا الذي تفعلُه الحكومة من صروف التجاهل والإزدراء وعدم الإهتمام بما يتداوله الناس عن فضائحها المدوية والمكشوفة لا يسئُ إلي الشعب في شئ بقدر ما يسئ إلي الحكومة ويكشف فسادها ويعرّيها أكثر مما هي عارية..فمن سكت عن نفي تهمٍ كالسرقة والفساد عن نفسِه فهو سارقٌ وفاسد ومن قال إنه يترفّع عن الرد عليها فهو كاذب..وكلما أمعنت الحكومة في تجاهلها لما تظنه (شعباً جاهلاً) وكلما سٙدٙرت في لا مبالاتها إعراضاً عمن تحسبه (أمةً سفيهةً) لا تعقل رسخ في يقين الشعب أنها حكومةٌ لصة وفاسدة ولا تستحي..وهذا بالضبط ما يحدث الآن في دراما الفريق المعزول طه الحسين..
وكان يمكن أن تُمُر مفسدة طه الحسين هذه كأيِّ مفسدةٍ أخري من مفاسد الإنقاذ..تثور في الأسافير، وتتناقل أخبارٙها المنتديات وتنشر الصحف (فُتات) ما يسمح النظام بنشره ثم ينتهي كلُّ شئ..ولكن مفسدة طه الحسين لها بعدٌ آخر..فلو صحّ -ما يقال- فإن طه الحسين مع ما كان يفسد ويطغي ويتجبّر فهو كان رجلاً أجنبياً يا جماعة الخير ولم يكن سودانياً !!
تسمح كثيرٌ جداً من قوانين وأنظمة الجنسية والتجنس في العالم بإزدواجية الجنسية.. إذ يجوز للمتجنس الإحتفاظ بجنسيته الأصلية والتمتع في ذات الوقت بمزايا الجنسية المكتسبة..وتكاد تكون كلُّ دول الغرب تتبع هذا النظام وعلي رأسها أمريكا وكندا وبريطانيا وألمانيا ودول أخري..
غير أن نظام التجنُّس السعودي لا يسمح بإزدواجية الجنسية.. وعلي كل حامل للجنسية (التابعية) السعودية بالتجنيس أن يتنازل عما سواها وقبل أن ينال شرف التجنيس..
ومعني ذلك فإنّٙ تجنيس الفريق المعزول طه الحسين بالجنسية السعودية حتّٙم تنازله الفوري عن جنسيته السودانية ومن ثم تسليمها لإدارة الأحوال المدنية السعودية لحفظها أو لتسليمها لدولة المتجنس الأصلية إذا طلبت ذلك..(راجع صحيفة أم القري نهاية مارس ٢٠١٢ والتي جاء فيها {أنه يتعيّن على من يتم منحه الجنسية السعودية أن يسلّم جميع وثائق جنسيته الأصلية لإدارات الأحوال المدنية المعنية لحفظها في ملفه، ويؤخذ تعهدٌ على المتجنَّس بعدم الاحتفاظ بأية وثائق أجنبية أخرى أو الحصول عليها مستقبلاً..}..إنتهي
ولكن ظل طه الحسين (مع هذا) يمارس كل الصلاحيات الممنوحة له من الرئيس من قبل، وظل يأمُر وينهي ويُعلي ويخفض ويربط ويحل ويقرّر في أمر السودان والسودانيين بل ويمثّل السودان ورئيس السودان وهو (غير سوداني من أساسو)، ولا يدين بالولاء لا للعٙلٙم ولا للنشيد ولا للقُطر السوداني..ومن زمنٍ بعيد لا نعلمه !! وهناك قرينةٌ ساطعةٌ ومجلجلة ولا تقبل التأويل : فعندما قطع السودان علاقاته مع إيران علي نحوٍ مفاجئ في يناير من العام الماضي ٢٠١٦ لم يعلم السودانيون بقطع علاقات بلادهم مع إيران من وكالة السودان للأنباء ولا من تصريحٍ لوزارة الخارجية السودانية كما تقتضي العادة والأعراف وإنما سمعوه من خلال وكالة الأنباء السعودية..!! نعم وكالة الأنباء السعودية..ولم يكن مصدر الوكالة السعودية إلا الفريق طه الحسين..ولقد فعل سيادته ذلك دون مراعاةٍ للأصول وقواعد البروتوكول وإنما إظهاراً للولاء والدينونة للدولة التي يحمل جنسيتها وهذا طبيعي ولا يُلام عليه !!!
والمتصوّٙر إذن -والحال كذلك- وعندما إندلعت أزمة الخليج الحالية -وحتي قبلها- كان علي الفريق طه الحسين أن يُظهر ولاءه للدولة التي يحمل جنسيتها وأن يعمل علي دعم موقفها وتقوية معسكرها وخاصةً بعدما إتضح أن السودان يؤثر الحياد بدل الإنحياز إلي أيٍّ من الفريقين المتصارعين..وفي الحقيقة فإنّ السودان لا يسعُه إلا أن يكون محايداً في هذه الأزمة ولقد كان بين نارين..نار قطر الكريمة المعطاءة ونار السعودية ومعسكرها..ولكن الفريق طه ولكونه يحمل الجنسية السعودية فلقد كاد أن يُفسد علي السودان حياده هذا ولربما فعل..!!
يقول العارفون إنّٙ كلّٙ صفقات الإستثمار الضخمة في الفترات الفائتة وتحديداً في مجال الزراعة كانت تمُر عبر الفريق طه، وكثيرٌ من هذه الصفقات لا يعرف تفاصيلها أحدٌ ولم تُعلن..وكانت كلها معفاةً تماماً إلا من رسومٍ رمزية وتمتد إيجارات أراضيها لتسع وتسعين سنةً وبأسعار رمزية للمتر الواحد إن لم تكن مجانية..!!! والشئ ذاته ينطبق علي كل إستثماراتٍ خليجيةٍ أخري..!!
إنّٙ مفسدة طه الحسين تنطوي علي مفاسد وفاسدين كُثر والذي يعرفه الناس عنها هو أقل القليل فقط..وسوف لن تتكلم حكومة القصر عنها كما هو متوقّع ولن توضّح (لشعبها) حقيقة أمرها..لا علي مستوي الرئيس ولا علي أيّ مستويً أدني آخر.. وسوف تموت بالتّٙقادم وسوف تُدفن في أسافيرها..مثلما دُفنت من قبل قصصُ حاويات المخدرات وقصة مكتب الوالي وديوان الزكاة وعمارات الشرطة ومثلما دُفنت تصريحات وزير الخارجية السوڤيتي بشأن موافقة الرئيس البشير بإنفصال الجنوب مقابل تغاضي المجتمع الدولي عنه فيما يخص مطالبات الجنائية الدولية..
ولكن تبقي حقيقةٌ واحدة وهي أن الفساد في بلادنا وفي (حكومتنا) قد عمّٙ كلّٙ شئ وكل أحد وبلا إستثناء..وليس من أحدٍ في (حكومتنا) قد نجا منه..ومن علِمٙ منهم وسكت وظنّٙ أنه قد نجا فهو واهم..
ومفسدة طه الحسين هي واحدةٌ كغيرها من مفاسد الإنقاذ الداويات، وما إهتمامُنا بها إلا لأنها خرجت من جُلباب الرئيس شخصياً.. ولكن الرئيس لا يهمُّـه ما علِـق بجلبابه ولا بذمّٙته..فما دخلنا نحنُ إذن ؟!!!