توفي العالم والناشط النوبي الدكتور عبدالقادر شلبي بعد رحلة عطاء طويلة اجتهد خلالها كثيراً في خدمة بلده السودان، الذي كان سفيراً له حيثما حلّ.
وعمل شلبي بمبدأ “الأقربون أولى بالمعروف”
فوجه جزءاً كبيراً من طاقته لخدمة أهله، موظفاً علمه وعلاقاته من أجل تنمية
بيئتهم، والارتقاء بها، بعزم لين، وإصرار على قهر المستحيل.
ولم تأت رياح شلبي بما يشتهي، لأن البيئة الفاسدة التي
أوجدها نظام الإنقاذ البائد لم يكن مهيأً لينبت فيها أي زرع صالح، ولكنه نال شرف
المحاولة، وإلهام الأجيال لتواصل رحلة العطاء بلا ملل.
كان الراحل المقيم مهموماً باللغة النوبية؛ لعلمه أن
اللغة هي وعاء الثقافة، ففقدانها يعني موات التراث، وإهالة التراب على الماضي، بكل
ما فيه من إنجازات، ورموز، وعادات وتقاليد، أي العدمية بكل ما تعني الكلمة.
كان يتلمس سبل إحياء اللغة النوبية، وقد شهد إحياء
الحرف النوبي على يد العالم مختار كبارة، وكتب عن لقائه به، واندهاشه بما توصل
إليه من حروف تبعث الأمل في أن تحيا اللغة النوبية بالتدوين، وقال: “بمساعدته
قرأت بصعوبة فصلاً كاملاً باللغة النوبية من مخطوط “معجزات القديس مينا
” الذي قدمه فيما بعد البروفيسور بروس وليامز. فشعرت بعبق الحدث السحيق رغم
مرور أكثر من 1300 عام يفصل بيننا. في تلك اللحظات الشديدة التوهج رأيت عيون د.
مختار الصغيرة الذكية، تبرق في ود، وعلت وجهه ابتسامة صافية، وسكينة العالِم
العارِف الواثق من علمه تغمره وتلفه تماماً. وتنفستُ ببطء وأنا أمعن الإبحار داخل
ذاتي، وشملتني سكينةُ مَنْ وجد البر والشاطئ بعد إبحار في بحر متلاطم الأمواج.
قلت وأنا أحاول قطع حبل الصمت الطويل: “ولكن لغة
القوم في ذلك الزمان بدت لي غريبة، خليطاً من (“المتوكية” و
“الفاديجا” و”المحسي” و”الدنقلاوي”)” . فرد في
صوت خفيض: “نعم .. لقد كانت لغة واحدة في ذلك الزمان”.
توفي عبدالقادر شلبي في أقاصي الدنيا في منفاه الاختياري، بعد أن ضاقت به السبل في بلده، وقد يكون العزاء في أنه شعر أن هناك من سيواصل بعث اللغة النوبية، بوصف التراث النوبي مكوناً رئيساً لثقافة أهل السودان وحضارتهم، ومصدر فخر لهم جميعاً، وقد أصدر الباحثان النوبيان مكي علي إدريس وخليل عيسى خليل المعجم النوبي، وأنهى الأستاذ مكي دراسته المعمقة في قواعد اللغة النوبية، وهذا ما يحقق أمل الفقيد في أن تظل هذه اللغة حية ما دامت الحياة.
ألا رحمه الله رحمة واسعة بقدر ما أعطى فأخلص، وأوفى.