يتميز الانسان السوداني بشكل عام وانسان الشمال بشكل خاص بالارتباط الوثيق بمكان طفولته ومراتع صباه فتجد اهلنا في الشمال هم اكثر الناس حنيناً وشوقاً الي قراهم واهلهم وقد عبروا بذلك شعراً وغناءً، فالواحد منهم اذا ما أبعدته الظروف المعيشية اوظروف الدراسة عن اهله وقريته الي اي جهة (حتي وإن كانت داخل السودان)، فإنه بعتبرها غربةً ويجسد ذلك المعني قول الشاعر حميد في رائعته شن طعم الدروس والتي يقول فيها:
شن طعم الدروس مادام بسافر بي قطر
وكيف ذاته ترتاح النفوس مادام قرايتاً في سفر
ولم يكن حميد حينها يدرس خارج السودان انما قال ابياته هذه وهو يدرس في مدينة عطبره او(اتبره) كما يحلو لأهلنا في ديار الشايقية ورغم هذا القرب المكاني لكنه كان يعتبر نفسه مغترباً والكثير الكثير من شعراء وفنناني المنطقة تغنو للبلد وعبروا بشعرهم عن شوقهم لمن يحبون كقول احدهم :
لوعارفي يالفاردي الجناح انا شوقي ليك ماليهو حد
للنيمه والضل الرهيف والنسمه والسعن البرد
لي لوبي في صدر الجروف والنيل من الحيضان شرد
يرجع كل هذا الحب اعزائي الي البيئة البسيطة التي تتمتع بها منطقة منحني النيل، حيث ترتبط عندهم بالكثير من الذكريات فتهيج بهم الاشواق لعادات مارسوها واعتادوا عليها في صباهم مثل رمي (الجبابيد) والعوم في موسم الدميره، والدافوري في العصاري، واصطياد القمري والدباس سواءً (بالنبله) او بالشرك الذي كانت صناعته (تخصصاً نادراً) عند بعض رفقائنا في الصغر، كذلك قعاد القيزان خاصة وان منطقتنا كوري هي من تستحق لقب عروس الرمال خاصة بعد زيارتي مدينة الأبيض والتي تلقب ايضاً بعروس الرمال حيث جمعتنا امسيات جميلات في كوري تحت ضوء القمر، حتي اخذت بعض القيزان مسميات اشتهرت بها علي سبيل المثال لا الحصر(قوز كع وقوز الحفر).
كل هذه الأشياء والذكريات تجعل انسان الشمال في اشتياق دائم لمواسم العودة الي الجذور، ولعل حديثي في هذه المساحة يجئ عن واحد من اهم مواسم الهجرة الي الشمال، التي يجتمع فيها الأهل ويحرص عليها غالبية اهل الشمال طمعاً منهم في نسيان همومهم والهروب من ضوضاء المدينة، والتوجه شمالاً الي قراهم ليشاركوا الاهل هذا المؤتمر السنوي الا وهو موسم حصاد البلح او كمايحلو لهم محلياً بـ (حش التمر)، وهنا استعير له تسمية اخري اعجبتني سمعتها في احدي اغنيات اهلنا الشايقية، وقد سماه الشاعر فيها بـ”عرس النخيل”، فموسم حش التمر يحرص كثيرون من اهل البلد الذين يسكنون المدن المختلفة علي حضوره يقيني ان هدفهم الأساسي هو الكسب المعنوي قبل الكسب المادي؛ لان طبيعة ايام الحصاد تعتمد علي لمة الناس منذ الصباح الباكر وحتي غروب الشمس، تتخلل هذا اليوم العديد من المواقف والقفشات رغم الإرهاق، حيث يتناولون طعامهم في صحن واحد، ويشربون الشاي في مجموعات خاصة شاي (اطناشر) وهو شاي الظهيره، الذي يعتبرمن السنن المؤكدة عند اهلنا في الشمال خاصة في ديار الشايقية، كما عند اهلي في منطقة كوري النائمة في احضان الضفة الشرقية لنيلنا العظيم، اضافة لذلك فإن الأهل يعتبرونه موسماً للحلة الديون وشراء الجديد من الملابس ودفع رسوم المدارس والجامعات لأبنائهم، ايضاً يعتبر موسم حش التمر موسماً للأفراح، فالعديد من الأهل يقصدون تزويج أبنائهم في موسم حصاد التمر والسبب في ذلك التظاهرة الكبيرة التي تشهدها البلد في تلكم الأيام وهنا تحضرني ابيات من قصيدة الشاعر خالد شقوري “ود البلد” التي يجسد فيها هذا المعني بقوله :
يوم عرسو في عرس النخيل والله جاتو جنس خلوق
اماتو سايقات النهارفي حنتو الملت الشقوق
حتي القماري من العصر شالت مع بنوتنا قوق
والراسي في جوطة الصفاح من بالو ماراح العلوق
والعلوق المذكور في القصيدة يقصد به طعام الغنم او الابقار التي يسعاها غالبية اهلنا في البلد، والمعني المقصود هنا انه رغم فرحته الكبري بزواجه الا انه لم ينس، همه اليومي وهو طعام غنمه وبهائمه التي في المراح والله اعلم.
أيضاً هناك الكثير من العادات التي نراها في موسم حش التمر وتختفي في بقية المواسم، وأذكر منها ظاهرة استبدال الترمس بالتمر، فبين الترمس وحش التمر علاقة وطيدة اتمني ألا تنقطع، فالعديد من النساء يحرصن علي صناعة الترمس لاستبداله بالتمر تحت ظلال النخيل واثناء عملية الحصاد علي طريقة (النفط مقابل الغذاء).
كل ما ذكرته من احداث ومواقف في موسم حش التمر او حصاد البلح يؤكد اعتماد اهل الشمال جميعاً وبشكل أساسي علي هذا المحصول المهم حيث نجد ان النخلة هي ايضاً مصدراً للتفاخر بين أهل الشمال فالذي يمتلك اكبر عدد من النخيل يعتبر هو سيد البلد، ويؤكد ذلك الحديث الفنان محمد وردي في اغنيته التي يقول جزء منها :
انتي مابيدوكي لي زولاً مسيكين
الا واحداً تمرو مقرون في البساتين
دلاله علي أن طلبك ليد بنت كان مرتبطاً بوضعك المادي وما تمتلكه او يمتلكه والدك من أشجار النخيل خاصة اذا كانت البنت من الأسر الكبيرة في البلد وهذه دلالة علي ان (الشواكيش) بلغة شباب العصر الحديث هي ظاهرة قديمة ومرتبطة بوضعك المادي ان اتفقتم معي في الرأي.
اعود بعد هذه التخريمه واقول ان النخلة هي مصدر للتفاخر والتباهي بين اهلنا في الشمال ولم لايفتخرون بها وقد عظمها الله بالذكر في كتابه العزيز بقوله تعالي : ((وهزي اليك بجزع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً )) صدق الله العظيم .
في خطاب المولي عز وجل الي السيدة مريم وهي في لحظة المخاض دلالة علي ان التمر يسهل من عملية الولاده لامهاتنا وأخواتنا وبناتنا.
كذلك أوصانا بها نبينا الكريم (صلي الله عليه وسلم) بقوله : “اكرموا عمتكم النخلة” لذلك يعتبر موسم حصادها مؤتمراً سنوياً جامعاً لكل الأهل من مختلف مدن السودان. وكل ما أتمناه من خلال هذه المساحة ألا تندثر هذه التقاليد وتطالها يد العولمة التي اقتلعت جذور الكثير من ثقافاتنا وعاداتنا. وفي ختام حديثي اختتم بكلمات في حق النخلة صاغها قديماً الشاعر الشاب ابن بلدي مجاهد بابكر عبد الرحيم (براد) والتي قال فيها :
طبيعتك شامخه يانخله عزيزه وبيك جد نفاخر
وكل املنا نشوفك ونريدك ريد مالو آخر
وهدفنا نوسع زراعتك تعم القري والبنادر
زراعة حديثة وتطور وليك نأهل كوادر
شرابه يكون انسيابي ونسيب الجوز والتناكر
وننتج اصناف عديده تزين وجه المتاجر
نشيد كمين مصانع ونعلب وندي البواخر
عماله تكون ديمه تعمل نهاره وبالليل تساهر
عشان اوضاعنا تتحسن ويعيشو ملوك الي الآخر
ودمتم سالمين.
*صحافي وأكاديمي