قبل الاجتماع المشترك لمجلس السيادة و الوزراء لإجازة قانون تفكيك نظام الانقاذ ، تداولت الأوساط الاسفيرية مسودة هذا القانون الذي أشرفت على إعداده نخبة من القانونيين من قوى اعلان الحرية و التغيير ، و قد تضمنت مسودة المشروع مادة كاملة اسمها العزل السياسي نصت على الاتي ( لا يجوز لأي من رموز نظام الإنقاذ أو الحزب ممارسة العمل السياسي لمدة لا تقل عن عشرة سنوات تسري من تاريخ إجازة هذا القانون . ). و لكن بعد صدور القانون من الاجتماع المشترك اختفت هذه المادة ، مما أثار استفهامات كثيرة .
نعم قادة المؤتمر الوطني سوف يحاكمون على جرائم الفساد و جريمة الانقلاب و جرائم قتل المتظاهرين و التعذيب و سرقة المال العام و … الخ ، و لكن هذه كلها جرائم جنائية في المقام الأول ، يحاسب عليها القانون كل من أفسد في حكومة الإنقاذ بغض النظر عن موقعه سواء كان رئيس جمهورية او بواب .
و الجميع يعلم أن الجرائم الجنائية تحتاج لأدلة و هي ما قد لا يتوفر في حالات كثيرة ، و هذا يجعل كثير من قادة الانقاذ و رغم مشاركتهم الأكيدة في النظام في خانة الابرياء ، و لهذا السبب يشاهد الجميع ابراهيم غندور و رغم مكانته في النظام السابق خارج السجون و يتحدث و يهدد و يتوعد .
لذلك لا تكتفي الثورات بالقضايا القانونية ضد قادة النظام السابق و التي يحتمل خروجهم منها بلا حساب ، و إنما تستهدف ايضا محاسبتهم سياسيا ، و كيف ستتم المحاسبة سياسيا اذا لم تكن بمنعهم من ممارسة السياسة لفترة زمنية معتبرة ؟!! و هذا بالضبط ما يسمى قانون العزل السياسي . و بهذا القانون فإن أمثال غندور لا يمكنه التصريح بأي تصريح سياسي و الا أصبح مدانا رسميا .
الثورة السودانية لن تكون استثناءا من الثورات الأخرى في حال أقرت قانون العزل السياسي، فهذا القانون ظهر بعد ثورة تونس و بعد ثورة مصر و بعد ثورة ليبيا، و يعلمه الجميع في العالم ، و أكثر الانتقادات له تتلخص في عدد الذين يشملهم العزل السياسي و ليس في طبيعته ، لأن طبيعته منطقية جدا ، فالذي أخطأ في السياسة يعاقب سياسيا بمنعه منها .
الطبيب حين يخطيء في اداب مهنة الطب يعزل عن العمل و قد تسحب رخصته و يمنع عن ممارسة المهنة طيلة الحياة، لاعب الكرة حين يخطيء داخل الميدان يعزل من اللعب و يمنع من التنافس الكروي لعدد من المباريات ، الموظف في اي وظيفة اذا أخل بقوانين الوظيفة يعزل من الوظيفة ، و كل هذا عزل ليس جنائي و إنما عزل متعلق بطبيعة العمل ، لذلك من الطبيعي حين يخطيء السياسي في ممارسة اللعبة السياسية ان يعزل من النشاط السياسي .
الغريبة حتى الديمقراطية نفسها تعزل سياسيا حين تمنع رئيس جمهورية مثلا من عدم الترشح أكثر من مرتين طيلة حياته!! أليس هذا عزلا سياسيا !!! ان تمنع شخص من الترشح للرئاسة كما يشاء ؟ و لكنه عزل للمصلحة العامة و تعمل به كل دول العالم الديمقراطية و أمريكا مثالا على ذلك . لذلك من حيث طبيعة العزل فهو ليس مرفوض و إنما قد يكون فيه قساوة اذا مثلا تم العزل السياسي لملايين او آلاف الأشخاص، بينما عزل عشرات الأشخاص ليس فيه أي بأس ، و إنما فيه مصلحة عامة حين يعلم كل انقلابي ان مصيره ليس المحاكمة القانونية فقط و إنما المحاكمة القانونية و العزل السياسي .
لذلك نطالب بقانون للعزل السياسي لمدة ١٠ سنوات على الاقل يستهدف قادة نظام الانقاذ ( من منسوبي الحزب الحاكم ) الذين تولوا المناصب القيادية التالية في الدولة و الحزب عبر تاريخ الانقاذ من الانقلاب إلى السقوط : رئيس الجمهورية و نواب رئيس الجمهورية و مساعدي رئيس الجمهورية و مستشارو رئيس الجمهورية و الوزراء الاتحاديين و رئيس المجلس الوطني و نوابه و الولاة و رئيس حزب المؤتمر الوطني و نوابه ، و رئيس جهاز الأمن .
و سيكون هذا العزل جزاءا سياسيا عادل جدا على أخطاءهم التاريخية في السياسة السودانية لثلاثين سنة حسوما ، كما سيكون رسالة واضحة و صريحة لكل سياسي يقحم نفسه مستقبلا في الانقلابات و أنظمتها الفاسدة .
sondy25@gmail.com