في الواقع، ثمة مقاومة تحدث، لكن لم يطرأ جديد على المشهد الإعلامي الآحادي داخل البلاد بشقيه الرسمي والخاص، إذْ ما زالت الحال كما هي منذ الانقلاب على حكومة “الصادق المهدي” في عام 1989م، ومصادرة الكم الهائل من صحف “الديمقراطية” مشرعة النوافذ؛ هذا بالطبع على مستوى التوصيف الفوقي للحالة الإعلامية السودانية، وهو واقع لم يكن ينفي وجوداً إعلامياً آخر أكثر عمقاً وأبعد غوراً؛ أعني الخطاب المعارض والمصادم لنظام “الإنقاذ”، وحكوماتها المتعاقبة، إذ لم يتغيب هذا الصوت طيلة السنوات الماضية، وعمل بقدر ما على خلق حالة من التوازن الإعلامي قد ترتفع كفته، أو تهبط، بحسب مسارات الأحداث، وتغيراتها محلياً وعالمياً؛ أما أن ينحسر هذا الصوت – المعارض – ويغيب تماماً، فهذا هو الأمر الغريب والمريب الذي نتلمس آثاره خلال هذه المرحلة الحساسة من تاريخ البلاد.
وفي الواقع؛ فإن غياب الصوت المعارض يجعل الحكومة كما لو أنها تتنفس من رئة هادئة.
احتكار بمدافع الدبابة
لا يغيب عن الذهن أن الحديث عن إعلام متعادل بين الحكومة ومعارضيها يظلم هذه المعارضة ويضعها في موضع الخاسر للرهان. فالفرق شاسع بين إعلام تقوده وتحرسه فوهات البنادق ومدافع الدبابات وإعلام آخر يتخذ من أقبية الأرض والمنافي ومواقع الميديا ومواقع التدوين فضاءً لبث رسالته، ومحاولة إيصال خطابه إلى “الجماهير” التي يعمل على التماس معها، وإخراجها من دائرة التأثير المباشر للإعلام الحكومي الرسمي بأساليبه المخادعة والمراوغة.
ومع قوة هذه الفروقات التي ترجح كفة الإعلام الحكومي إلا أن خطاب المعارضة ظل حاضراً، وتمكن في كثير من الحالات من وضع النظام بآلياته المتعددة في دائرة المساءلة والاتهام، وأجبره في مرات كثيرة على التراجع والاستسلام، لصالح “المواطن غير المنتمي سياسياً”، لكن هذا “نمط من استخدام الإنترنت لا يبشِّر بالديمقراطية والشفافية، ولا الحياة الكريمة”، التي تنتظرها المعارضة، كما عبر عن ذلك كارن روس في كتابه (الثَّورة بلا قيود) الصادر في مارس الماضي.
هناك بلا شك شواهد قليلة على نجاح المعارضة في اختراق بنية الإعلام الفوقية المسيطر عليه بواسطة الحكومة وأجهزتها الأمنية، إلا أنها كانت حالات عابرة ونادرة أنتجتها ظروف وملابسات سياسية محددة، تمكنت خلالها من البروز والسطوع، ثم ذبلت واضمحلت مع زوالها. وتأتي تجربة صحيفة “أجراس الحرية” المعارضة على رأس هذه النماذج، فالصوت المعارض والمختلف وصل مع فترة ازدهار هذه الصحيفة إلى أعلى مراقيه، لكن ومع تبدد حلم الوحدة وانفصال جنوب السودان عن شماله ذهبت الصحيفة وصوتها المعارض إلى أدراج الريح.
“رأي الشعب” نموذج آخر لتجربة صحافية تمكنت من إيصال صوت المعارضة ومواجهة النظام بخطاب إعلامي قوي، وهي تجربة أثمرت أيضاً في مساحات الحريات القصيرة التي جادت بها الظروف السياسية خلال أعوام “اتفاقية السلام” بين النظام الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان، ثم ومن بعد ذهاب الجنوب صوبت الحكومة فوهات بنادقها، وضيقت الخناق على الصحيفة، إلى أن أغلقت أبوابها تماماً. هناك أيضا تجارب أخرى مشابهة تمثلها صحف “الميدان” و”الاتحادي”، وبعض الصحف الإلكترونية التي لا تزال تعمل، وإن بشكل متعثر.
العصرنة والتمويل
خلال حقبتي السبعينيات والثمانينيات نشطت المعارضة – لاسيما اليسار- في مواجهة نظام نميري بشتى السبل والوسائل، وقد نجحت بشكل خاص في الساحة الإعلامية الجماهيرية، واستطاعت مزاحمة الإعلام المايوي في إيصال صوتها لـ “الشعب السوداني البطل”.
من ضمن الأساليب الإعلامية التي اعتمدتها المعارضة في ذلك الأوان اللجوء إلى ما يمكن توصيفه بـ “الإعلام المباشر” عن طريق الكتابة على الحوائط، وتوزيع المنشورات، وأسلوب آخر هو تبني مشروعات إعلامية كبيرة متمثلة في صحف ومجلات تصدر من خارج البلاد، إضافة إلى بث إذاعي يومي بتوقيت معلوم لكل مواطن سوداني.
تلك وسائل إعلامية بنت زمانها، وتصبح محاولة تطبيقها في هذا الزمان حالة أشبه بحروب “دون كشوت” الطواحينية، فالكتابة على الحوائط والبث الإذاعي المحدود، في عصر الإنترنت ومواقع التواصل وانتشار الفضائيات أمر يدعو إلى السخرية والتهكم إن حدث، والغريب أنه حدث ويحدث فعلاً في حرب بعض أركان المعارضة السودانية ضد نظام الإنقاذ.
الالتفات إلى مثل هذه الأساليب البالية يستدعي أسئلة تتعلق بأفق الخطاب الإعلامي المعارض، وحجم التمويل الذي تتلقاه القنوات الإعلامية المعارضة، لأنه برغم البون الزمني والحداثي الشاسع بين معارضة السبعينيات ومعارضة اليوم إلا أننا نجد قديم المعارضة أكثر حداثة من حاضرها، وهذا تبينه الصحف والمجلات التي كانت تصدر بصوت المعارضة في النزال ضد “نميري” وغيابها المخزي في الصراع الدائر الآن مع نظام الإنقاذ، هذا ناهيك عن أن الوقت الحالي يستدعي بدائل أكثر حداثة “قناة فضائية” واحدة على الأقل.. لكن يبدو أن خزائن المعارضة خاوية، ولا تحتمل أكثر من تمويل “بوهية” الحوائط!
هل ابتلعت الحكومة معارضيها؟
احتكار الحكومة الخطاب الإعلامي وإزاحتها المعارضة من هذه الساحة، يستدعيان أيضا أسئلة تتعلق بمدى نجاح الحكومة في زعزعة معارضيها وتفتيتهم، ومن ثم احتوائهم وابتلاعهم.
هل نجحت سياسات الحكومة سواء التفاوضية الطويلة أو الأمنية العنيفة في فت عضد المعارضة، وتركها عارية في فضاء الإعلام الشاسع، بلا أدوات مناصرة أو أصوات مساندة؟ أم أن التحولات الدولية والعربية الراهنة كانت السبب الرئيس وراء هذا الانحسار الملحوظ لخطاب المعارضة إعلاميا؟
في كلا الحالتين، نجاح الحكومة في اختراق المعارضة وتفتيتها، أو انكشاف المعارضة أمام التحولات الدولية والعربية، تظهر المعارضة السودانية في “ثوب مهلهل” وموقف ضعف يبينان خطل سياستها، وسوء أذرعها المساندة، وغيابها التام عن الرؤية والتحليل الجديرين بكل جسم سياسي، يسعى إلى تغيير نظام أمني راسخ بمثل قوة ومراوغة نظام الإنقاذ.. فهل من مراجعة؟