حتى نكون واقعيين الدعوات التي تدعو إلى علاقة ( ندية ) بين السودان و أمريكا هي دعوات غير واقعية ، بلادنا ليست ند لأمريكا لا من قريب لا من بعيد ، لا عسكريا ، لا اقتصاديا ، لا سياسيا و لا أمنيا. نحن بالنسبة لامريكا كالبعوضة في أذن فيل، لا أقول هذا الكلام تقليلا من حجمنا ، و لكني انقل الحقيقة التي من المهم أن نعترف بها ، حتى تكون دليلنا للتعامل مع امريكا .
كمثال بسيط للمقارنة بين أمريكا و السودان اقتصاديا فإن الناتج المحلي لأمريكا يتعدي ٢٠ ترليون دولار و هو ما يساوي ربع إجمالي الناتج المحلي العالمي بأكمله و الذي يبلغ حوالي ٨٠ ترليون دولار ، بينما الناتج المحلي للسودان باجمعه بالكاد يساوي ناتج مدينة صغيرة من مدن أمريكا . اما في السلاح و القدرات الامنية فإن المقارنة معدومة تماما بيننا و بينهم ، و كذلك الفرق شاسع جدا في مجالات البحوث العلمية و تطوير القدرات التدريبية و عالم الالكترونيات و كمثال بسيط فإن إيرادات شركة أبل للإلكترونيات الأمريكية في عام ٢٠١٨ تساوي أكثر من ميزانية دولة السودان في ذلك العام . لكي تصل بلادنا مرحلة أمريكا الراهنة قد يلزمها على الأقل قرن من الزمان في ظل نظام ديمقراطي مستقر ، أما إذا عدنا مجددا للانظمة الدكتاتورية فيلزمنا الف سنة لنبلغ مرحلة أمريكا الراهنة .
لذلك مهم ان نعرف أننا لسنا ندا لأمريكا، و لا يمكن أن نعاملها بهذا المنطق . نعم نحن دولة ذات سيادة و نملك قرارنا ، و لكن لا يمكن أن يكون هذا القرار غبيا بدرجة ان نتصور اننا قادرين على إملاء الشروط على أمريكا او إجبارها على موقف بطريقة لوي الذراع ، لذلك أعتقد أن الخطوات التي يخطوها رئيس الوزراء حمدوك هي خطوات متزنة جدا ، و موضوعية ، تقدم السودان في شكل دولة ذات سيادة و في نفس الوقت دولة تعترف بمكانتها المتأخرة و تتطلع إلى المساعدة من الدول العظمي من أجل النهوض و التقدم في دروب الديمقراطية و الحريات و النهوض الاقتصادي ، و في ذلك فحمدوك يرسل رسائل مطمئنة بأن السودان لا يريد مستقبلا ان يخرج عن الإجماع العالمي و لا يريد أن يكون حاضنة للارهاب او العنف او الحروب و إنما يريد ان يكون جزءا من إجماع السلام العالمي و يتطلع إلى الاندماج في هذا الإجماع كدولة صديقة و شريكة في مشاريع محاربة المهددات العالمية مثل الإرهاب و الاتجار بالبشر و الفقر و الأمراض المعدية .
استطاعت أمريكا ان تحاصر السودان بالعقوبات لمدة ٢٧ سنة متتابعة لم تفتر و لم تنهزم، و يمكنها المواصلة في ذلك لقرون و لن تخسر الكثير ، بينما سنخسر نحن كثيرا جدا . لذلك مهم ان نناقش مع امريكا كل مخاوفها و شروطها اللازمة لرفع هذه العقوبات ، و لذلك فالمقاربات التي يتبعها حمدوك بما فيها مناقشته لطرق تعويض الامريكيين المقتولين في حادثة المدمرة كول و حادثتي تفجير سفارتي أمريكا في نيروبي و دار السلام المتهم فيهما النظام المخلوع ، و رغم ما قد تشير اليه هذا المفاوضات من ضعف و لكنها في الحقيقة قوة للذي يعرف حجمه و امكانياته و لا يهتم بالعواطف في سعيه البراغماتي لتحقيق هدف مهم جدا و هو علاقة شراكة و تبادل مصالح مع الدولة الأكبر في العالم التي ان رضيت عنك فلن يغضب عليك احد لا في الإقليم لا في العالم .
فلنتمثل بقول الخليفة عمر بن عبدالعزيز القائل ( رحم الله امرأ عرف قدر نفسه ) ، و لنعرف اننا مقارنة بامريكا لا نسوى شيئا، و أن خططنا نحو النهضة و الصعود اذا لم تتضمن علاقة شراكة مع امريكا فهي على الأقل يجب أن تتضمن علاقة صداقة ، و ان نحذر تماما ان نستعديها كما فعل المخلوع صاحب شعارات الغباء ( امريكا روسيا قد دنا عذابها ) و التصريحات الساذجة ( صرفت ليها بركاوي تقيل ) . السياسة تعني تحقيق المصالح للشعوب لكي تعيش حياتها في امن و استقرار ، و لا تعني تعذيب الشعوب بالحروب الخاسرة و المعارك التي تعلم مسبقا انك لن تنتصر فيها ، و من الجيد أن خطوات حمدوك حتى الآن تخطو في اتجاه تحقيق مصلحة شعب السودان بلا تهريج و لا عنترية ، فلنساعده عليه كشعب و لن نندم .
sondy25@gmail.com