لا أتردَّد حين أقول ( حليل زمن الداندرمة ) و ليسقط زمان الآيسكريم ، و سأعترف رغم أنف الحداثة التي إستشرت في ما يفيد و ما لا يفيد .. أنني في أحيان كثيرة أحن إلى التلفزيون عندما كان أبيض و أسود و لم يتلوّن كما يتلوّن المنافقين من أهل هذا الزمان ، ثم أيضاً لا أستنكر على نفسي أن يقودني حنيني للماضي النقي و الوفي على الأقل من وجهة نظري إلى كانون الفحم و لذة طعم ما يُطهى عليه و لا أنسى أشواقي لشوارع أحيائنا بالأمس و التي كانت بريئة من كل ما يدنس شوارع اليوم و الحقيقة فنحن قد تربينا فيها .. ( و ليقل علينا من يقول ) أننا تربية شوارع ..
فعبق الماضي أيضاً يصف الشوارع بكل القيّم الجميلة و التي من أهمها النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف ، فالجار و المعلم و صاحب الدكان و عابر السبيل ، جميعهم كانوا يتدخلون و يساهمون في تأديبك ونصحك و إبعادك عن ما يضُر ، أقول ما سبق على خلفية خبر عن محاكمة معلم بالتقاعد تجاوز الستين عاماً .. لإتهامة بجلد تلميذ ،
ثم لن أتردد و لن أخجل في نعت كل ماضينا الجميل بما فيه من تخلف آلي و تقني بأنه كان الأوفى و الأجمل على المستوى الأخلاقي و التربوي ، و حتى الجرائم حينها كانت محدودة ( الرؤية ) وواقعية المنطق ، أنظروا كيف أصبحت اليوم جرائم القتل بالمئات ، و بأساليب و تفاصيل أقلها ذبح الصديق لصديقه و ضرب أبن لأمه و أبيه ، و إغتصاب طفلة في عامها الثالث ، بالله ماذا أصاب الناس و ماذا الزمان ،
ينتابني شعور أن الجريمة نفسها في ماضينا ذاك الجميل ، كانت تخضع لأعراف و قوانين و أخلاقيات تحدد أبعاد ما يمكن أن تكون عليه الجريمة ، أنظروا إلى العلاقات الإجتماعية اليوم و التي أصبحت مجرد ( تمشية حال ) .. فحتى أبناء البيت الواحد أصبحوا يلتقون ساعة على الأكثر ،
ثم كلٌ يذهب في طريقه باحثاً عن نزعاته الذاتية ، في حين كان زماننا الجميل يمثل فيه التمازج الإجتماعي و الأسري ما ينم حقيقةً على أن الحي بأجمعه أسره واحدة ، فالكل كانوا يعرفون بعضهم بعضا و كانوا أيضاً مطلعين على أخص خصوصيات من يقاسمهم المكان ، فلا يكاد يخلو حي من الأحياء أيام زمان من شيخ يمثل دور المصلح الإجتماعي المتفق على مكانته ورأيه ، بالقدر الذي يجعله مؤتمناً على أسرار العشيرة و الذين هم ليسوا سوى الجيران ، يتدخل في حل المشكلات الشخصية و الأسرية ، بلا حاجز و لا مواراة و لا نفور من أصحاب الأمر أو إستعلاء ، في زماننا ذلك الجميل كنا نكوي ملابسنا المدرسية مساء الخميس بمكواة الفحم ، و التي أصبحت اليوم من آثار الماضي السحيق ، حتى كوي الملابس كان له نكهة ، ثم كانت المدارس تجمع كل أبناء السودان على شتى سحناتهم و قبائلهم و ثقافاتهم و مكانتهم الإجتماعية ، لا فرق في الإجلاس أو ما تقدمه وزارة التربية من خدمات تربوية و تعليمة بين إبن وزير أو والي أو غفير أو عامل ، و بذلك كان زماننا ذاك يتيح عبر مؤسسية التعليم و التربية إستيعاب منهج التوادد و التوالف الإجتماعي و قبول الآخر ، عبر إزالة الحاجز الطبقي ، بالحسنى دون صراع و بمنظور عملي و واقعي و ميداني بعيداً عن الصراعات و التنظير ، أعود لأقول أنني لن أستحي من إعلان حنيني للتلفون أبو حلقه ، و للعب بالترتار و النبلة المصنوعة من عود شجر طبيعي و حقيقي و شريط أنبوب لإطار سيارة تم الإستغناء عنه ..