انطلقنا صباحا من الشقة بسيارة أجرة صعدت بنا على جسر علوي مديد قد يصل من معرض الخرطوم الدولي لكبري الحرية. وأثناء سيرنا جاء مبنى الأمم المتحدة الشهير على يسرانا مطلا على النهر الشرقي بطوابقه ال ٣٩ فوق الأرض في بهاء’ التي تضم ١٩٣ دولة عضوا وتعد أرضها بمحيطها دولية ولا يخضع موظفوها للقانون الأمريكي تعزيزا لحيدتها وتتموضع مقارها الارتكازية الخارجية في فينا وجنيف ونيروبي.
في قلب نيويورك اعتلينا حافلة سياحية تقودنا لجهات لم نرها أمس بتذاكرنا نفسها التي كنا قد فعلناها ل ٣ أيام بدءا.
نمر الحين على حديقة سنترال بارك وهي واسعة الأرجاء يتعذر طيها على الأقدام لذا نجد حولها مقاعد للراحة ودراجات تستأجر بتذاكر من جهاز منصوب قربها. وتشهد الحديقة الشهيرة أعلى معدل ارتياد وتدفق من كل أجناس المعمورة.
يسرانا فندق التاج الذي يستقبل الأثرياء وقضاء ليلة واحدة فيه ب ” الشيء الفلاني! “. وهنا تذكرت فندق التاج محل الفخيم المطل على بحر العرب في مومباي عاصمة الهند الاقتصادية.
عند ناصية الحديقة صعدنا حافلة أخرى من السلسلة نفسها قادتنا إلى حي هارلم بالغ الدوي بحسبانه مركز سلالة الأفارقة الأمريكان ومستودعهم الثقافي والتاريخي حيث أطلت في خاطري رواية الجذور لاليكس هيلي’ الذي سرد معاناة الأسلاف خلال تهجيرهم القسري وما تلاه’ الذي حول لفيلم سينمائي مثير.
أمامنا حي لا يختلف كثيرا عن الأحياء الأخرى خلاف لون البشرة الأدكن الشائع الذي يعتوره اختلاط بالأعراق الأخرى من البيض والصفر.
الحي الذي عرف ببعض العنف والمخدرات والفقر سابقا تخترقه رساميل معتبرة تحيله لحي ينبض بالحيوية والتحول التدريجي نحو الذوبان في نهر التيار العام.
حركة الناس ماضية في دأب أفرادا وجماعات ومراكز الشرطة بارزة في التقاطعات المهمة في الحي الذي صورت فيه أفلام ذائعة الصيت ونبعت من تلافيفه موسيقى الجاز المندلعة من الدفء الإفريقي للعالم.
في طريق العودة للوسط التجاري أبنية بالطوب الأحمر الكلاسيكية معدودة الطوابق قبل طغيان الشواهق ذات الواجهات الزجاجية وأبراج الأشكال الهندسية الإبداعية’ التي تزحم قلب الدنيا بصورة أكثر اتساعا من كل مدائن الدنيا.
في رئة منهاتن دخلنا صيدلية من طابقين: الأول للأدوية والأعلى لمستحضرات التجميل وفي الموقعين مختصات مليحات للعون والمساندة الفنية.
عندما خرجنا منها جذبنا صوت لحن سوداني ينداح قربنا وحين تتبعناه في دهشة وجدنا نوبيا من بلدة الدر .. محافظة أسوان’ الذي استقبلنا بحفاوة وذكر أنه قريب الفنان محمد منير الذي وصفه بميزتي التواصل والتواضع وعدد لنا أسماء فنانينا اللامعين وأصر على إكرامنا وعندما اعتذرنا لارتباطنا طلب زيارته لاحقا.
لما كان الشارع الرئيس أمام كشكه يشتعل بالحركة أوصلنا للناحية الأخرى ويدي في يده وأنا أحيطه بعلائقنا الأسرية في النوبة المصرية وهو يبدي ملاحظته بأن بي ملامح من السامق وردي فشكرته.
بعد مسير قرابة ساعة بسيارة أجرة وصلنا موقعا يشمخ فيه أحد فروع بنك باركيز وهو الذي حمل اسم بنك الخرطوم في السودان بعد التأميم.
أخي وأحد أصدقاء عمري الحبيب سامي بدوي يأتينا محتضنا وتضمنا لهفة الشوق ويأخذنا في سيارته ويسرع لنا بمشروبات ومأكولات خفيفة ثم يقودنا في طواف على تلك الضواحي الأخاذة من نيويورك متمهلا ويلفنا أنس جميل بين ذكرياتنا في قريتنا الوادعة بالمحس ثم في عطبرة الطليعية وواقعنا الماثل في الدنيا الجديدة ونحن نستغرق في الضحك وسعادة اللقاء.
بعد طي أبعاد كثيرة زهاء ساعتين توقفنا أمام مطعم تركي فاره .. ٣ صالات فسيحة متداخلة بالداخل خلاف المرافق وعشرات الترابيز بالخارج على الهواء الطلق والنهر النيويوركي ينساب في وداعة غير بعيد يحاذيه شارع يمور بمسالك عدة.
الأتراك معروفون ببراعة الطهي نتيجة ترامي إمبراطوريتهم واختلاطهم بالشعوب مبكرا وقد نقلوا بعض المأكولات لمصر والسودان مثل الكباب والكفتة والكنافة.
شباب من الجنسين في زي موحد يخدمون مئات العملاء الذين تضج بهم الأمكنة وأحار في طرائق تسلسل الطلبات وانسيابها وضبط إيقاعها ويقطع تفكيري عرض قوائم الوجبات والتحليات والعصائر فنختار ليعودوا بعد قليل بأشهى الأطباق’ طاغية اللذاذة.
بعد أن أنهينا جلسة الطعام والأنس الجميل المديدة الرائعة خرجنا لنكتشف أن الساعة تخطت الثامنة مساء.
حاولنا أن نودع العزيز سامي ونأخذ سيارة أجرة لبعد المسافة وتجنبا لمشقة ذهابه ثم العودة في زخم التزاحم لكنه أصر على توصيلنا بنفسه وهكذا أتيحت لنا فرصة جديدة لمتابعة الونسة الدفاقة.
حين توقفنا نحو التاسعة والنصف تحت عمارتنا طلبنا منه المبيت معنا لكن كان لا بد من عودته لبعض الضرورات.
حان الافتراق فاشترط أن نأتي بمجال أكبر لاحقا وأن ننزل في مسكنه فودعناه وبالنفس حسرة ولم نبرح أماكننا ونحن نتابع سيارة سامي السامي تمضي قدما ثم تنعطف يسارا نحو شارع رئيس.
ما أعز الإنسان في دنياوات الغربة!
نيويورك