تابع السودانيون تصريحات وزير الماليه الإنتقالي بشأن الموازنة الجديده بمزيج من الاهتمام والقلق والتفاؤل. فقد قال الوزير بأن الموازنة تجسد رؤية السودان المتمثله في برنامج الحكومة النهضوي للفترة 2020 – 2030 وفق محاوره الرئيسة التي تسعى لإنفاذ أهداف التنمية المستدامة، مع التركيز على زيادة دعم الصحة، والتعليم، ومياه الشرب، وصحة البيئة. ثم أضاف أن أهم منطلقات الموازنة تتمثل في دعم السلام والتنمية وتثبيت الاقتصاد، لافتاً إلى إعداد قائمة متكاملة لمشاريع القيمة المضافة لإدراجها في الموازنة التي فعلت التمييز الإيجابي للولايات المتأثرة بالنزاعات، إلى جانب إحكام برامج الحماية الاجتماعية لصالح المواطن.
ما يدعو للتفاؤل أن كل سوداني تقريبًا يدرك الأسباب الاقتصاديه التي كانت تربك أداء الموازنات السنويه مثلما يعرف المحركات التي تدفع بالعمله الوطنيه (الجنيه) إلى التراجع المستمر أمام العملات الأجنبيه. ولا شك يتابع الجميع تجاوز سعر صرف الدولار الواحد 80 للجنيه. ولهذا ما يجب أن ينفي القلق أن تصريحات وزير الماليه الدكتور إبراهيم البدوي بشأن الميزانيه جاءت بالجديد من حيث إختفاء الأرقام الفلكيه لميزانية القصر الجمهوري وتوابعه ومن حيث بث الطمأنينه في النفوس عبر التبشير بعودة الدولة المسئولة عن مواطنيها. فقط قرار تصويبات الخلل في هيكل أجور موظفي القطاع العام أثارت جدلاً لا يزال. فقد رأى البعض أن قرار الوزير يتسق مع رؤيه اقتصادية كليه تأتي تحت عنوان تخفيف وطأة الغلاء على محدودي الدخل بينما رأى آخرون أنه يستهدف تحريك السوق وزيادة معدلات القدرة الشرائيه. ونظر آخرون للقرار بأنه لا يعدو أن يكون تخبطًا لا طائل من ورائه.
ومهما يكن فإن وزير الماليه الانتقالي ينبغي تقويمه من خلال أداء برنامجه الاسعافي ككل. وأيضأ من خلال مدى تطبيقه لمعاير الشفافيه التي أعلنها وعممها. في الحقيقة وزير الماليه منذ توليه موقعه لم يعد يعلق ما يجري من تدهور فى الاقتصاد بعنق النظام السابق أو يربطه بمؤامرة خفيه ضد (المشروع الحضاري) أو ينسب التدهور إلى حملات المعارضه (الفندقيه) التي أرعبت المستثمرين. بل يتحدث الوزير بكل موضوعيه وشفافيه عن مشكلة الإنتاجيه والإنتاج بالسودان ويطرح وسائله لحلها. ولهذا يمكن تصنيف موازنته وقراراته بأنها ضمن هذا المفهوم. وأن قرار الأجور يستهدف تحفيز الاقتصاد وتحفيز إنتاجية العاملين بإزالة الفروقات في أجورهم. وقد تفهم الموازنة ضمن (مباصرة) العقوبات الاقتصادية الأمريكية وفي إطار تعزيز الثقة في الاقتصاد الوطني وتحريك عوامل تشجع تدفق الاستثمارات والدعم الأجنبي. كما يمكن التوسع في قراءة ما يحاوله الوزير وفق الآتي:
- إن الموازنة تحاول معالجة التركة المثقلة للنظام الآفل بإصلاح ما دمر من بنية تحتية للخدمة المدنيه وما تم من تهجير للكفاءات وتجريف للعملية الإنتاجية، وتدمير ممنهج للمشاريع الزراعيه وتعطيل للمصانع وتخريب للعديد من القطاعات ذات الجدوى الاقتصاديه.
- يحاول الوزير توجيه إيرادات الدولة السودانيه بتصحيح مسارها لزيادة الإنتاجية بدلا عن استنزافها في الحروب العبثيه والمعالجات الأمنيه والقمعيه.
- يسعى لتعميم الشفافيه والحوكمة الرشيدة في مؤسسات القطاع العام بما يكبح معدلات الفساد الذي وضع السودان ضمن أسوأ الدول بحيث جاء ترتيبه 172 من 180 دوله حسب قائمة منظمة الشفافيه لعام 2018. وبذلك لم يترك السودان خلفه إلا ثماني دول من قائمة العار. ولهذا يسعى الوزير للقفز من هذا الدرك استنادا لوقائع وما أثبتته محاكمات الرئيس المخلوع. من حيث أن الفساد أضحى هيكليا ومؤسسيا ، ومفُصّل ليضاعف من ثروات القطط السمان ورجالات النظام وأزلامه(راجع تقرير المراجع العام 2014م).
- كما أن وزير الماليه يحاول الحد من فساد آخر وهو الامتيازات والإعفاءات المشبوهة التي كانت تمنح للجمعيات الخيريه ولشركات حزب النظام وهو قطاعه التمكيني الذي يدير شركاته الرماديه التي تنشط حتى اليوم في مضاربات السوق السوداء وتصب إيراداتها لجيوب مسؤولي النظام السابق وجلاوزة أجهزته القمعيه.
- وهو جانب مهم إذ لم تتحكم تلك الشركات في أسعار الدولار والعملات الأخرى بل تسيطر على معدلات توفر السلع الأساسيه والوقود وحركة النقل وعمل المصانع وبالتالي هي مسئولة عن خلق الأزمات.
- ومن المحاولات الجادة للوزير سعيه الدؤب لاستعادة الأموال السودانية والثروات، المنهوبة أو التي هربت لمصارف دول الجوار أو بنوك العالم. وقد تكللت بعض تلك المساعي بنجاح مدهش.
- إن أصدقاء السودان سيدركون أنه بدون هذه الإجراءات يصعب رؤية أي فائدة من أي طرح لأي موازنة أو تصويب لهيكل الأجور كما يصعب توقع أي نفع من أي معاملة تفضيلية للولايات متى غابت تلك المعالجات.
- في المقابل عدم تبني هذه الإجراءات الاقتصاديه سيرتب تراجع مرعب للقوة الشرائيه للعملة الوطنيه وتضخم فالت للأسعار وتمدد قاتل للبطالة والفقر.
- ومن ناحية يجب باستمرار بعث الرسائل لأصدقاء السودان بتاكيد وجود رؤية وخطوات جادة من الوزارة وإلا فإنهم سيكفون عن الدعم ما يعني أن ما يقوم به الوزير هو الواجب المنزلي الضروري.
- إن قرار تحفيز عودة أموال المستثمرين السودانين وتحفيز تدفق مدخرات المهجرين ومعالجة حقوق المصدرين وواجباتهم وتدبير شراء إنتاجية المعدنين الأهلين بالسعر المحفز يجب أن تكون حاضرة في أجندة الوزير.
- يدرك الجميع أن حجم أموال السودانين في دول الجوار الأفريقي لوحده تقارب 11,9 مليار دولار باعتراف حكومات هذه الدول، فضلا عن مدخرات المهجرين الذين يبلغ عددهم حوالي 11 مليون سوداني.
إن اجتماع أصدقاء السودان فرصة للقطاع الاقتصادي الإنتقالي لإثبات الجدية وللتعريف بصحة الإجراءات الاقتصادية المتخذة . كما أنها فرصة للتعريف بالأجندة التي تهزم توجهات السودان الاقتصاديه وتقعد بخططه. كما ينبغي التبشير بفرصة وقف إطلاق النار وصمت المدافع في جميع الجبهات القتال حتى تصب أكسجينًا في أشرعة الاقتصاد السوداني. وإلا فإن الأمور للمواطن العادي ستبدو كما لو أن النظام الإنقاذي لا يزال يعمل بكل طاقاته. فالحال المعيشي بالنسبة له يتدهور والحاجيات الأساسيه تنتقل من حضن أزمه إلى أخرى كما أن نسبة البطالة بين الشباب والشاباب تتمدد والأسعار تتضاعف. إن على أصدقاء السودان القيام بما يجب أن يقوم به الأصدقاء، من دعم للحكم الانتقالي، ودعم للحلول السياسية والاقتصاديه ودعم برنامج العدالة الانتقالية ودعم خطط تخليص مجتمع سوداني طحنته الحروب والسجون والبطاله، وهي مساندة ليست إنسانيه بقدرما هي كسبية، من حيث قطع الطريق على المتربصين بثورة السودان، وخلق استقرار مستدام في الإقليم وبين شعوبه.