الخبر الذي ورد صباح اليوم عبر صحف الخرطوم بأن حميدتي يشرع في تسليم مناطق التعدين بجبل عامر للحكومة الانتقالية ، سيكون خبر ذو هزة عظيمة ، فالذهب السوداني يحقق ما يفوق مبلغ ٣ مليارات دولار سنويا و هو رقم قابل للزيادة في حال استطاعت الحكومة الانتقالية تنظيم التعدين و إحلال السلام في دارفور و محاصرة تهريب الذهب ، كذلك فإن هذا الخبر سيرفع من أسهم حميدتي في نظر قطاع كبير من الجماهير المتوجسه من نفوذه و قوته العسكرية ، كما يؤكد الخبر أن الرجل منصاع لقرارات الثورة و الحكومة الانتقالية بوضع يد الدولة على كامل المصادر المالية و الاقتصادية بالبلاد ، لتدخل جميعها تحت نفوذ وزارة المالية و لتراجع جميعها بلا استثناء بواسطة المراجع العام ، و هي الطريقة المعلومة لمحاربة الفساد المالي في كل دولة ديمقراطية و محترمة في العالم .
قصة جبل عامر تبدو مثل قصص الف ليلة و ليلة ، قصة مليئة بالذهب و الدم و المغامرات ، فالقضية ابتداءات في عام ٢٠١٢ حين قادت الصدفة معدنيين سودانيين تقليديين إلى اكتشاف منجم ذهب في جبل عامر في شمال دارفور ، و في فترة وجيزة حصدوا ملايين الدولارات مما جعلهم يطلقون علي هذه المنطقة اسم ( سويسرا ) ، طارت الأنباء عن سويسرا الذهبية في أرجاء السودان و خارجه و هرع عشرات الآلاف من المعدنيين التقليديين إلى المنطقة ، جاءوا من داخل السودان و من دول الجوار مثل تشاد و النيجر و أفريقيا الوسطى و نيجيريا ، فأصبح الوضع بالتالي أقرب إلى المستعمرة ، و انتشر السلاح و المخدرات و تجارة البغاء ، هذا ما جاء ذكره في تقرير مجموعة الأزمات الدولية ، و كذلك ما جاء ذكره في تقرير رويترز .
جبل عامر الغني بالذهب رفع من درجة التوتر في منطقة دارفور المتفجرة من الأساس بالحرب ، و هي ايضا منطقة تقليدية مازال كثير من سكانها يعيشون في مجتمعات قبلية بالإضافة إلى انتشار الفقر و الجهل و الأمية فيها كما في سائر أنحاء السودان في ظل نظام الانقاذ الفاسد ، لذلك أصبحت المنطقة عبارة عن كرة ملتهبة من الصراعات ، و حين اتضح أن المنجم غني بالذهب في وقت تبحث فيه الحكومة عن مصدر دخل للعملة الأجنبية بعد انفصال جنوب السودان بالنفط ، دخلت الحكومة في الصراع ، و هو ما زاد من تأجيج الأوضاع، خاصة و أن نظام المخلوع كان يستقطب بعض قادة القبائل للقيام بالأدوار القذرة التي لا يمكن أن يقوم بها الجيش . في هذا الجو المشحون ظهر موسى هلال ثم مستقبلا ظهر محمد حمدان دقلو( حميدتي ) .
الذهب السوداني استطاع في وقت وجيز ان يقفز إلى المرتبة الأولى في صادرات البلاد ، و حل محل النفط الذي ذهب مع انفصال الجنوب ، في ٢٠١٨ بلغ الإنتاج في تسعة أشهر فقط ٧٨ طنا بحسب شركة التعدين الحكومية وقتها ، و هو رقم ضخم جدا يجعل السودان في موقع متقدم من الدول المنتجة للذهب عالميا ، و لكن أزمة الذهب في السودان ظلت هي التهريب ، أكثر من ثلث الذهب المستخرج في السودان يتم تهريبه و لا تدخل قيمته إلى خزينة الدولة . و هذا الهدر ينتج عن ضعف و بدائية سيطرة الدولة على قطاع التعدين و على الحدود و المنافذ بما فيها المطارات ، بجانب وجود التعدين نفسه في دارفور و هي منطقة حرب ، إضافة إلى وجود هجرة غير شرعية في مناطق التعدين من سكان الدول المجاورة بعدد كبير . كل هذه العوامل دفعت حكومة النظام البائد ربما إلى تسليم مهام تعدين و تحصيل الذهب الى المليشيات مثل قوات الدعم السريع ، و ربما قصدت من خلال ذلك تحقيق شيئين ، الاول البعد عن الاتهامات بان الدولة تمارس اعمال قذرة على المعدنيين المحليين و الاجانب ، و الثاني تعدين الذهب بعيدا عن أعين الرقابة الرسمية و الشعبية و من بعد إدخال الرقم الذي تشاء إلى خزينة الدولة و تجنيب ما تشاء لاستخدامها الشخصي .
جبل عامر او سويسرا السودانية اكتشفته الصدفة ، و هو مؤشر على أن السودان يرقد فوق جبال من الذهب و يحتاج فقط إلى استقرار البلاد و إحلال السلام و استتباب الأمر لحكومة ديمقراطية حازمة و عادلة لكي تستخرج هذا المعدن الثمين بطرق تعدين حديثه و بأسس عادلة تجعل جزء من عائده يعود في شكل تنمية حقيقية إلى منطقة الإنتاج و مواطنيها ، منعا للصراعات و التمرد .
sondy25@gmail.com