كان يوم أمس (14 ديسمبر2019م) شاهداً على عظمة ثورة ديسمبر، ومؤكداً عزم الشعب السوداني على إهالة التراب على نظام الإنقاذ، الذي أساء للبلاد والعباد، وألصق بديننا الحنيف ما ليس فيه، من سلوكيات تعافها النفوس الطيبة، من عنف مفرط يصل إلى حد القتل، بل الإبادة الجماعية كما في دار فور، أو في اغتيال زبانيته 28 ضابطاً في شهر رمضان المبارك من دون مراعاة لحرمة الشهر.
كما تتمثل
السلوكيات التي تتنافى وقيم الإسلام في الفساد الذي زكم الأنوف، والذي تنوع حتى شمل
كل أنواع الفساد، التي لا تخطر إلا على بال إبليس.
وكان يوم أمس محاكمة الرئيس المخلوع عمر البشير على
جزء يسير من الفساد، لا يمثل شيئاً في طوفان الفساد الذي أغرق فيه البلاد هو
وعصابته على مدى 30 عاماً، اختطفوا خلالها الوطن، وأفقروا أهله، وأذاقوا الناس
ألواناً من المذلة في سبيل أن يتمكنوا، ويكنزوا الذهب والفضة (بفراغة عين)، ونهم
مفرط.
ولا تعدو التهمة التي نال عليها البشير “عامين في
دار الإصلاح الاجتماعي” أن تكون “حيازة النقد الأجنبي والثراء الحرام
والمشبوه”، فقد ضُبطت في حوزته ملايين من الدولارات واليورو، في وقت كانت
خزينة البلد فارغة، والطوابير تصطف أمام البنوك من أجل ألف جنيه في اليوم.
وطبعاً مثل هذا الحكم لا يشفي غليل من ذاقوا مرارة الإنقاذ، وهي كثيرة، ولكن في هذه اللحظة تحضرني ما عاشته أم مجدي محجوب محمد أحمد من مرارة وإحساس بالغبن والقهر، وقد اتهم بحيازة حفنة من الدولارات، وهو ابن أحد أثرياء البلد، حين كان البشير وصحبه يلاحقون قطار حلفا حفاة في سبيل كسرة خبز جافة، أو ملاليم تقذف إليهم.
ومع هذه المرارة، علينا أن نفخر بدولة القانون التي
ترسيها ثورتنا المجيدة، فالبشير الذي يذهب إلى دار الإصلاح الاجتماعي لتعاد تربيته
وتأهيله وقد قارب الثمانين، لم يجد القاضي العادل منفى له في طول البلاد وعرضها،
لأن له في كل ركن فيها جريمة اغترفها، وفساد ولغ فيه هو وزبانيته.
وفي اليوم نفسه (14 ديسمبر) خرج مناصرو النظام البائد في “زحفهم الأخضر” يتقدمهم كتبة السلطان الذين أثروا بعد فقر، وتسيدوا المشهد سنوات وكانوا نكرات، خرجوا وقد توهموا أنهم استطاعوا تجاوز صدمة الثورة، وما قررته من إزالة أي أثر لهم، لا بالبلطجة والإرهاب كما كانوا يفعلون، وإنما بالقانون في دولة المواطنة، التي صادروها طويلاً.
خرجوا ليستمتعوا بكفالة القانون ومظلته الوارفة، وهم
يرددون شعاراتهم البالية، التي تتلاعب بالدين، كأنهم لم يتعلموا الدرس، ولم يعوا
بعد لفظ الشارع العريض لهم. وليتهم دروا أنه لولا حياء الإنسان السوداني وأدبه،
لعاشوا عزلة اجتماعية تحيل حياتهم إلى سجن كبير، ولو كانوا طلقاء.
إن مسيرة أنصار الإنقاذ لم يتعرض أحد فيها للعنف ولا
الاعتقال، ولم يسقط أحد فيهم قتيلاً، وهنا تأتي المقارنة بين نظام قاتل، ونظام
يحتكم إلى القانون، ويشيع الأمان.
لقد كان يوم الحكم على البشير ويوم إخفاق زحف أنصاره
الذين ظنوا أنهم قادرون على قلب الطاولة دليلاً على أن دولة الإنقاذ زالت، وانتهت
إلى مزبلة التاريخ، وأن المؤتمر الوطني أصبح شيئاً من الماضي لا يرتبط في الأذهان
إلا بالقبيح من الأقوال والأفعال.
وهذا اليوم بما حمله من معانٍ عميقة هو أجمل من أي
احتفال يمكن أن نقيمه احتفاءً بمرور عام على ثورتنا المباركة.