بطبيعة الحال، يمكن القول إن ما يحدث في مدينة بورتسودان منذ يونيو (حزيران) الماضي من صراع بين مكونات أهلية بعينها يعكس بصورة من الصور، ردود الفعل التي تضرب أكثر الأطراف والهوامش هشاشةً بعد سقوط نظام ديكتاتوري كان يمثل الاستقرار الذي فرضه على المدينة طوال 30 سنة، استقراراً ظاهرياً بقوة السلاح.
هذا الوضع الذي غالباً ما يكون صحيحاً (كما هو الآن في بورتسودان) عند انهيار أنظمة ديكتاتورية في مجتمعات متخلفة، لا ينبغي أن يكون غائباً عن وعي ونظر الذين خاضوا التجربة الثورية بنجاح في السودان لأنه سيكون مهدِداً حقيقياً للثورة لكن الغريب في أمر مدينة بورتسودان، أن هناك بنيةً قبلية صلبة للبجا (السكان الأصليين لشرق السودان) تعكس تصوراتها وعصبياتها القبائلية القاسية انعزالاً خطيراً ينبع من صميم الممارسات المغلقة في الحياة اليومية لتلك القبائل. وهو انعزال لا تكاد تنفع معه أي دعوات مستقلة لجماعة مدنية (حزباً كانت أم نقابةً أم منظمة مجتمع مدني) مهما كانت هويتها السلمية وخطابها الوطني، فبيئات شرق السودان لا تزال علاقات القرابة المغلقة فيه وهوياتها الصغرى، غير قادرة على تجاوز منطق العصبية الأعمى، بحيث يمكننا القول إنه من الصعوبة بمكان أن يستطيع العقل الجمعي للمكونات البجاوية في المدينة، رؤية المصائر الكارثية للاحتراب الأهلي البيني في منطقة جيوسياسية خطيرة كمنطقة شرق السودان ولا سيما ولاية البحر الأحمر.
صحيح أن للإدارة الأهلية (نظام القبائل) في مثل تلك البيئات القبلية قدرة على الاحتواء النسبي للصراع، لكن ما يغيب عن بال الكثيرين، هو أن حدود تأثير الإدارة الأهلية (الآن وهنا) لا يعمل في زمن تاريخي قديم (حيث كانت لتلك الإدارات الأهلية فاعلية قوية ومُحكمة) بل يعمل في فضاء جيوسياسي ومناخ أعقب أحداثاً ثورية وسياسية في المركز إثر سقوط النظام في الخرطوم مع متغيرات تبدلت فيها الأدوار النمطية لطريقة عملية نظام البشير الذي كرس إحياءً مدمِراً للقبائلية السياسية لأكثر من ربع قرن.
كل مَن يتأمل في أحداث مدينة بورتسودان وطبيعة العنف الذي يمارَس فيها بين المكونات التي يُراد لها الخوض فيه عبر تخطيط ما، يدرك تماماً أن ثمة خللاً في ثلاث جهات أساسية.
فمن جهة، بدا واضحاً أن اللجنة الأمنية في المدينة، التي يتعين عليها حفظ الأمن، هي لجنة يمكن أن يضع المراقب علامات استفهام كثيرة على تدابيرها للأمن في المدينة بطريقة لا تعكس تفريطاً في تلك التدابير فحسب، بل كذلك تثير تساؤلاً واستفهاماً حيال وقائع شهدها سوق المدينة الأسبوع الماضي بين جماعة متفلتة وبين مواطنين من مختلفي مكونات المدينة خلفت أكثر من 40 جريحاً، حيث كانت عربات للشرطة قريبةً من مكان الاشتباك المدبَر بين أولئك المتفلتين وبين مواطنين في السوق من دون أن تحرك عربات الشرطة ساكناً (كما أكد ذلك بعض المتابعين للأوضاع آنذاك في تسجيلات مصوّرة). والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا يتمثل في ما إذا كان هناك تواطؤ خفي للجنة الأمنية تجاه مكوّن واحد في المدينة (بنو عامر والحباب)، أو توجد إرادة لتعميم فوضى مسيطَر عليها، خضوعاً لنفوذ سياسيين قبائليين سابقين وفاسدين من البجا، يزايدون على اللجنة عبر إثارة الشغب وتحريك أتباعهم من منسوبي القبائل الذين تستثيرهم عصبيات لا يهمهم فيها وعي أسباب الصراع! لاسيما إذا ما عرفنا مثلاً، إن رئيس شرطة المدينة ينتمي إلى مكون بجاوي، يبدو من الصعب معه ممارسة استعصاء حيال إكراهات القرابة الضاغطة وعصبيتها القبائلية!
أليس غريباً أن تصدر حكومة البحر الأحمر قانوناً يمنع حمل السلاح الأبيض في المدينة تخفيفاً للاحتقان، ثم تهجم جماعات منفلتة على المواطنين في السوق بسلاح أبيض فيما تنظر إليهم عربات الشرطة من دون أن تمارس دورها في فرض الأمن؟
من جهة ثانية، يقف على رأس قيادة الولاية والٍ عسكري غريب عن مدينة بورتسودان، يلعب جهله بتاريخ المدنية وتعقيدات مكوناتها البجاوية من ناحية، وانتمائه إلى السلك العسكري الذي يعجز بطبيعة تكوينه عن ممارسة إجراءات إدارية مدنية معقدة من ناحية ثانية، دوراً كبيراً في مفاقمة أوضاع لن يستطيع حل مشكلاتها إلا بمزيد من التعقيد، ما يقتضي ضرورة التعجيل بقرار تعيين الولاة.
من جهة ثالثة، تتعامل الخرطوم ممثلةً بالتحالف الحاكم لـ”قوى الحرية والتغيير”، مع خطورة الأحداث وسخونتها ومآلاتها الكارثية المحتملة على مدينة بورتسودان بطريقة يمكن القول إنها عقيمة ولا قدرة لها على الاكتراث الحقيقي والجدية الكبيرة لفرض الأمن والتسريع بعمليات إبدال قيادات اللجنة الأمنية بقيادات صارمة في تنفيذ القانون وصادقة في توجهاتها الوطنية، قطعاً للطريق أمام وصول الأوضاع في بورتسودان إلى نقطة اللاعودة، بما قد تمثله تلك النقطة الخطيرة في حال الوصول إليها (لا سمح الله) من نهاية لمدينة ومنطقة إستراتيجية، سيكون ضياعها ضياعاً حتمياً للسودان برمته، وستكون الحرب الأهلية فيها (لا سمح الله) مقدمة لاشتعالها في داخل السودان، كما في خارجه، عبر الطامعين في ميناء بورتسودان الإستراتيجي.
وأشار الباحث السياسي السوداني الزميل الحاج وراق، إلى أن غياب الحساسية العالية حيال الوضع الأمني الجيوإستراتيجي في شرق السودان بما يقتضي من قبل صانعي القرار في الخرطوم، اكتراثاً جاداً لفرض الأمن الصارم والسريع في شرق السودان (وبخاصة مدينة بورتسودان)، وخطورة مآل عدم القدرة على ردع الجماعات الأهلية المتفلتة بقوة الدولة وجبروتها في حفظ الأمن، وقطع الطريق على رؤوس الفتنة من السياسيين الفاسدين في المدينة (عبر سجنهم ومحاكمتهم وهم معروفون بأسمائهم) فسيكون لغياب كل تلك العناصر (إذا لم يتم تدراكها سريعاً) عواقب كارثية لا يستطيع أن يتخيلها صانعو القرار في أسوأ كوابيسهم.
على “قوى الحرية والتغيير” أن تدرك تماماً أن الاحتقان الذي يسَّعِره مثيرو الفتنة لضرب السلم الأهلي عبر استهداف مكوِّن قبلي بعينه في المدينة (بنو عامر والحباب… وهناك أدلة وقرائن تثبت ذلك) هو احتقان من طينة عدمية وقبائلية لا تكترث أبداً إلى ما هو أبعد من أنفها في منطقة يريد أرباب الفتنة تعريفها كوطن حصري صغير لمكون بجاوي واحد بدعاوى نافية لمواطنية آخرين في شرق السودان، الذي سيكون وفق هذا السيناريو الكارثي: أفضل فرصة جيوسياسية للمتربصين من وراء الحدود!
المصدر: اندبندنت عربية
الأحد 15 ديسمبر 2019