بسام يخرج من قلب نيويورك بالسيارة التي استأجرناها .. على اليمين متحف الجاسوسية والعمل الاستخباراتي وهو قطاع خاص. وبالمدينة متحف الجاسوسية السوفيتي الخاص .. الوحيد المفتوح في العالم للزوار. والاستخبارات إحدى أذرع دبلوماسية الخفاء العالمية ويحوي المتحف نحو ٣٥٠٠ من المعدات من بينها مدهشات مثل كبسولة القتل من ١٠ أمتار في حجم حبة الرز وقبلة الموت الشبيهة بأحمر الشفاه لاستخدام العميلات الحسناوات دفاعا وهجوما’ وهكذا.
المنظر خلاب حولنا .. بحر يمتد من الأطلسي المتلاطم نجتاز جسره العلوي ونحن نغادر نيويورك التي قال عنها كاتب مصري:
حين تنتقل من لندن إلى نيويورك لكأنما تسافر من مركز ريفي إلى القاهرة.
في الضواحي الخضراء مصانع عديدة ترسل أدخنتها الكثيفة ومستودعات ضخمة بيضاء مستديرة تصطف متجاورة.
الطريق بمساراته المتعددة تنساب فيه الحركة الدءوبة في الاتجاهين. قرى مزارعين صغيرة وأخرى أكثر اتساعا تتخفى خلف حزام الشجر الممتد ووراءها مزارع ومراع شاسعة تجول فيها القطعان المنتجة وتدب الآلات الزراعية.
فجأة تتلبد السماء وتزحم الأفق حبيبات المطر المتزايدة في كثافة ثم تنحسر تدريجيا بعد حين.
ها ندخل بنسلفانيا الولاية التي تحتضن وسطها جبال الأبلاش.
بعد قليل تتبدى مشارف فيلادلفيا كبرى مدنها ومداخلها أشبه بورشة عمل ضخمة من فرط آليات الحفر والبناء.
نأخذ طريقنا إلى قلبها ونوقف سيارتنا في مرآب ثم يصل بنا مصعد للطابق الثالث من عمارة قريبة.
ندخل مطعما فخما تجلس على استقباله طالبة إفريقية من ليبيريا تعمل في أوقات فراغها. وكانت ليبيريا انطلاقة سفن الرقيق الرئيسة لأمريكا وأوروبا وجزر الكاريبي وهم من بنوا على كتوفهم برمنجهام وغيرها سخرة. وقادت ليبيريا أول رئيسة إفريقية’ التي درست في أمريكا وهي تكافح نادلة في مطعم .. إنها إرادة التغيير وحسن الإدارة. وأسس البلاد الرقيق المحررون العائدون المتحدرون من كل إفريقيا وسموا عاصمتها منروفيا تيمنا بمنرو الرئيس الأمريكي الخامس لأنهم كانوا مأخوذين بالبلاد التي قدموا منها.
نجلس في انتظار الطلبات فيحيينا عامل بنغالي لطيف مسن بآيات من القرآن فنبادله الود.
خرجنا نحوم بسيارتنا على معالم المدينة .. في وسطها حديقة فيحاء تليها كاتدرائية وكنيس يهودي ومبنى المحكمة الدستورية. هنا قاعة الاستقلال التي صيغ فيها الدستور وأقر من ممثلي ١٣ ولاية مؤسسة وكانت بنسلفانيا الثانية.
ما الأولى؟
صبرا
هذا ما تزيح أستاره أسطر تالية.
أمامنا جرس الحرية الضخم الشهير ” ليبرتي بيل “
Liberty bell
وبه شرخ نتيجة وقوعه ذات مرة ومن ثقله مات شخصان وجرح ثالث فوزنه يزيد على ألفي رطل.
وقد قرع لحشد المواطنين لسماع محتويات الدستور بعد دحر الجيش البريطاني. وبالتالي اتخذت فيلادلفا عاصمة أمريكا الأولى. وتسمى مدينة الحب الأخوي وفق معناها باليونانية.
ها هو الجرس البرونزي التاريخي المعلق على علو أعمدة فولاذية يشاهد حتى من الخارج ومع ذلك تزحف الصفوف لرؤيته عن قرب لرمزيته التحررية’ فوق أن الرئيس المؤسس جورج واشنطن سكن في الدار التي تضمه.
بالمدينة الارتكازية جامعات عظيمة .. دعونا نرى إحداها.
تحركنا صوب جامعة بنسلفانيا الشهيرة’ التي تصنف ضمن أعظم ١٠ جامعات في العالم ..
عمارات شاهقة تضم قاعات ومساكن الطلاب المواطنين والوافدين’ من بينهم عرب وأفارقة.
في طوافنا لاحظت شيئين: طالبات عربيات يرفلن في زي إسلامي ووجود لافت للأفارقة الأمريكان الذين كان أحد قادتهم من موقعي وثيقة الدستور الأمريكي.
للجامعات عامة ٣ مهام رئيسة:
.. إعداد الطلاب وتأهيل الدارسين.
.. خدمة المجتمع والإسهام في تنميته.
.. إجراء البحوث في العلوم البحتة والتطبيقية والإنسانية.
هنا كلها مطبقة تماما .. مثلا ونحن نخرج من المدينة شهدنا مجمعا ضخما يختص بأبحاث طب الأطفال ثم برجا هائلا فخما يطل على نهر ديلاوير الهدار ينشط في أبحاث البيطرة يضم نحو ٥٠ طابقا .. تصوروا!
هل يعقل أن تنافس جامعاتنا المرهقة هذه القلاع التي تنال دعومات كبرى المؤسسات وعائدات استثماراتها ورسوم طلابها العالية فلا مجانية في المستوى الجامعي رغم ثراء البلاد؟ ويمنح الفقراء سلفيات لتمويل دراستهم يوفون بها فور التخرج والالتحاق بعمل. وهكذا بعض الجامعات هنا أغنى من السودان بمراحل.
دخلنا مجددا نهر الطريق الشرياني الرابط بين الولايات فنعبر بلدات جاذبة ثم نطوف عصرا بمدينة ويلمنقتون الراقية بمبانيها الشاهقة ومحالها اللامعة وهي كبرى مدن ولاية ديلاوير’ الملقبة بالماسية لثرائها النسبي التي تحمل اسم النهر العظيم الذي يكاد يشق عرض أمريكا ليصب في الأطلسي.
لاحظت أننا درسنا بنطقها الكتابي ديلاوير بينما تنطق هنا دالور. وهذا لعناية الزملاء معلمي الجغرافيا إن لم تدهمها براكين التغييرات وموجاتها المتلاحقة. وتفخر دالور بأنها الولاية الأولى التي نالت شرف المصادقة على وثيقة الدستور’ الذي يعد أول دساتير العالم المكتوبة’ علما أن الدستور البريطاني العريق غير مكتوب .. عرفي يحتكم للأعراف والسوابق.
اتصلنا ونحن نستريح في هذه المدينة الجميلة التي تمنيت أن تسمق الخرطوم لعلاها بصهر العائلة الممتدة لكن موقعه كان بعيدا.
بحلول المساء توقفنا في مدينة بالتيمور بولاية مريلاند التي تشمخ فيها جامعة جون هوبكنز الذائعة الصيت وتناولنا عصائر. وليس بعيدا من هنا موقع جامعة مريلاند التي استوعب فيها الأساتذة السودانيون مشكورين طائفة من طلابنا على مر الأعوام.
رغم أنني قرأت عن العنف في بالتيمور كثيرا إلا أنها بدت ساكنة بسكانها الذين يشكل الأفارقة نسبة مقدرة منهم’ بل مررنا بنسوة يتدثرن بزي محتشم علهن صوماليات’ الحريصات دوما عليه.
عند العشية وصلنا واشنطن دي سي العاصمة ” ذات نفسها ” ودخلنا شقتنا فيها وهي على مقربة من البيت الأبيض. وتذكرت مقولتنا السائدة عند وصول عاصمتنا أو نأتي على ذكرها بإعجاب:
الخرطوم
محل ما الرئيس ينوم
والطيارة تقوم
ورددت وأنا أستلقي على سريري مجاريا:
واشنطن
محل ما ترامب ينوم
والصاروخ يقوم!
واشنطن
..
..