أثار انتباهي تعليق للممثلة القديرة بلقيس عوض في إحدى الندوات عن دور الفن والإبداع في دعم الحوار الوطني ، ما يفيد أنهم كجيل من الفنانين والمبدعين الذين كانوا قد أثروا ساحات الإبداع في فترة السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي (لم يستطيعوا أن يسلموا الراية إلى الجيل الذي يليهم)، كما استلموها هم من عمالقة الفن والإبداع في السودان، وللحقيقة فإن الجيل الذي سبق بلقيس عوض وتحية زروق ومكي سنادة وعلي مهدي والفاضل سعيد، كان جيلاً انبنت على أكتافة الدعامات الأولى لفن الدراما السودانية بشتى أشكالها المعروفة، إلا أن المسرح المحض يظل كما يسميه النقاد والمهتمين (أبو الفنون).
هو صاحب القدح المُعلى في رفد فن الدراما بالطاقات الإبداعية المتعدِّدة بتعدد آليات صناعته، فالمسرح هو دائرة وهج ساطعة طالما تخرَّج من متونها الممثلين الأفذاذ والمخرجين الحاذقين وأدباء القصة والرواية، فضلاً عن فنون أخرى كثيرة كتحرير الحوار الدرامي (السيناريو) وتقنيات الإضاءة والديكور وهندسة وتوزيع الصوت، كل ذلك الزخم الثري من الفن والإبداع المسرحي ، وحسب رؤية بلقيس عوض لم يجد من يحمل رايته من جيل الحداثة.
وفي حقيقة الأمر أميل إلى موافقتها الرأي فيما ذهبت إليه رغم أن ذلك ربما قاد البعض إلى الامتعاض وأولئك هم الذين يأبون أن يكشفوا عن الجراح حتى يتم تطهيرها وعالجتها لتشفى، عتقاداً منهم أن دفن الرؤوس في الرمال سيفيد، ولكن ذلك محال فالتاريخ يكتبه ويوثقه الحدث، ويشير إليه واقع الحال، وهو لا محالة مقروء ومستوعب، ولما كان أمر التسليم بأن حالة الدراما السودانية تشير إلى التردي والتراجع على المستويين الكمي والنوعي، كان لا بد لجيل اليوم الذي مازال يمارس المهنة (على مضض) أن يرفض مقولة (خلو ما يقدم الآن من فن درامي من أي تجديد أو إشارة تفيد النماء والتطور الإيجابي) .. وهم في ذلك غير مُحقين؛ لأن من ينظرون على البُعد تكون نظرتهم أكثر وضوحاً وواقعية من أولئك الذين يدورون وينظرون من داخل (الدوّامة) .. ولهم أن تطيب نفوسهم بقولنا أنهم ليسوا مسؤولين عن هذا التدهور إذا ما نظرنا إلى الأمر بروح منطقية ونظرة ثاقبة، إذ إن ما يجري الآن حولنا على المستوى العالمي والإقليمي بخصوص المسرح يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الدراما أصبحت صناعة ضخمة لا يستقيم أمر نمائها وتجويدها إلا بضخ أموال إنتاجية هائلة ترتبط بعجلة الاقتصاد الوطني وتمثل شقاً مربحاً من استثمارات رجال أعماله الوطنيين، إضافة إلى احتياجها غير المنقطع إلى دعم الدولة المادي والتنظيمي، ابتداءاً بإيمان قياداتها الإعلامية بأهمية دور الدراما بشتى أشكالها في رفد المجتمع بالقيم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تصب في اتجاه الخطة التنموية العامة التي تتبناها الدوله، بغير ذلك ستظل الدراما السودانية حبيسة ضيق الأفق الذي يشوب الاجتهادات الشخصية والإمكانيات الهزيلة التي ترجعها للخلف ولا تقودها إلى الأمام.