إسماعيل علي كجو ، هذا الإسم لم يفارق ذاكرتي يوماً ، كما أحمل لهذا الإنسان مشاعراً لا أكاد قادراً على تقييمها ، فهي خليط من الشعور بالإخاء و العرفان و المحبة الصادقة الخالية من أيي نوع من أنواع المصالح ، ذلك أن معرفتي به بدأت في مرحلة غضة من طفولتي الأولى حيث كانت المشاعر نقية لا تشوبها شائبة و لا تحتاج إلى أسباب و لا منطق فهي تخرج من القلب إلى القلب ، دلفت إلى التعليم الإبتدائي بمدينة مدني في منتصف السبعينات و في خاطري تلك التوجسات التي تجابه كل طفل مقدم لأول مرة للتعرف إلى عالم جديد ، خارج نطاق أسرته و عالم البيت الذي يظنه معظم الأطفال في تلك السن هو جل الدنيا و منتهاها ، و كان والدي حينها معلماً بالمرحلة الثانوية في مدرسة السني الثانوية ( وسط مدينة مدني ) ، و كانت مدرستي تبعد عن المنزل مسافة تحتاج من الزمن سيراً على الأقدام ما لا يقل عن الخمس و أربعين دقيقة ، وكان أن أوصلني والدي ليومين متتاليين ثم في اليوم الثالث سألني إن كنت أعرف درب العودة ، فأومأت له متردداً بأن ( نعم ) ،
وبدأت حياتي الجديدة تحت غمار الدهشة و الخوف من هذا العالم الذي إتسع في عيني فصرت كأنني أولد من جديد ، بدأت أتعود على الأمر رويداً رويداً منذ اليوم الثالث الذي قررت أن فيه أن أعود إلى المنزل بدون والدي ، و فعلاً و بعد إنتهاء اليوم الدراسي ، خرجت من باب المدرسة و بدأت رحلة العودة للمنزل و إتجهت حيثما ما خًيّل إلى أنه الإتجاه الصحيح ، ظللت أمشي في الشوارع و الأزقة ساعات عدة و لم أجد للبيت أثراُ حتى تجاوزت الحيّ الذي أسكنه ،
و بدأ الهلع ينتابني و كذا التوتر يزيد من هالة التشويش الذهني الذي يمنعني التركيز فيما حولي من معالم ، كنت كلما تأكدت أني ضائع ألتفت خلفي أجد تلميذاً طويل القامة ، قوي البنيه ، يحمل حقيبة من قماش الدمورية معلّقة على عنقه بقماش نحيف طويل يجعلها تتأرجح بين فخذيه ، كان ذلك إسماعيل على كجو ، من أبناء جبال النوبه و كنت أذكر أني أراه في المدرسة دائماً جالساً على عتبة أسمنتيه تحمل أزياراً للسقيا ، صامتاً هادئاً لايكلم أحداً ، أما وقد بلغ بي الهلع مبلغاً كاد يوقف قلبي جراء عدم إستدلالي على منزلنا ، ماكان مني إلا و أن ناديت إسماعيل ،
و حكيت له قصتي ، و كان هو أيضاً طفلاً لا يتجاوز التاسعة من عمره ، غير أنه برزانة العقلاء ربّت على كتفي و قال لا عليك (نحن إخوان ) .. ثم أخذني إلى منزله البسيط ( بحلة المكي ) شرق مدني .. حيث قابلتني والدته بحنان دفاق و تناولت معهم وجبة الغداء ، ثم شرعت ألعب معه و مع إخوانه حتى حضر والده الذي أخذ يسأني عن عمل والدي و المعالم التي كنت أراها قرب منزلنا ( في حي ناصر ) ثم أردفني في عجلته و دار بي في المنطقة حتى أشرت إليه أن ذاك هو منزلنا فأنزلني ، و بعد أن تأكد من دخولي قفل راجعاً ، بالرغم أن إسماعيل علي كجو كان يسبقني بعامين في المدرسة إلا أنه أصبح من أحب الأصدقاء و من يومها لا يبدأ رحلة العودة إلى البيت إلا بمرافقتي ، كان كريما ً خلوقاً وفياً ، يدافع عني إذا إندلعت مشاجرة و يقف إلى جانبي قبل أن يسأل الأسباب ، ثم مُنح والدي منزلاً حكومياً في حيّ الموظفين فتركت المدرسة و إنقطعت عني أخبار إسماعيل علي كجو بعد ثلاثة أعوام من الإخاء و المحبة و التواصل ( قصتي هذه مهداة إلى الذين يشككون في قدرة التواصل الإجتماعي على ضمان مبدأ المحبة و الوئام و الإتفاق و السلام في السودان ) .. هل يا ترى يتحقق حلمي و ألتقيك أخي إسماعيل علي كجو مرةً أخرى ..