لم يستطع أصحاب الزحف الأخضر الذين لم يزد عددهم على عدد الجماهير التي خرجت في أصغر حي في العاصمة، أو أقل قرية سكاناً في البلاد، لم يستطع هؤلاء أن يعلقوا سلباً على حجم الجماهير التي احتشدت في كل شبر في تراب هذا الوطن احتفالاً بثورتها، فلجؤوا إلى البكاء على الأوضاع المعيشية المتردية، كما وصفوها، كأنهم تركوا لنا بلداً ينضح بالخيرات، وكأننا كنا نفترش الحرير، ونلهو في الحدائق الغنّاء، والفواكه تتساقط علينا، والطرق ناعمة الملمس، لا حوادث، ولا اختناقات، وبنوكنا تشكو من ازدحام المودعين، ومطاراتنا تستقبل أفواج المستثمرين في كل حين.
كل يوم يثبت أهل الإنقاذ صدق سؤال أديبنا العبقري
الطيب صالح: من أين أتى هؤلاء؟ ظلوا يكذبون، كما فعل البروفيسور إبراهيم غندور
الذي ظنّ كثيرون أنه من حمائم النظام البائد، ليؤكد اعتقادي بأنه لا يمكن لإنسان
سوي ذي قيّم أن يكون في زمرة ذلك النظام، الذي اقترف سيئات الأنظمة الديكتاتورية
كافة.
وظلوا يتلونون في كل المنعطفات، فتخلت أغلبيتهم عن
شيخهم وإمامهم الترابي في أول (لفة)، وآثروا أن يكونوا حيث السلطة، التي فتحت لهم خزائن
الوطن لينهلوا منها كما يشاؤون، كما عاش الوطن في عهدهم محاصراً، وأصبح جواز السفر
السوداني محل شك وريبة، ليعاني أبناؤه في المطارات ويتعرضوا للمضايقات بكل صنوفها
بذنب نظام جائر يرتكب الحماقات إلى حد القتل باسم الدين، الذي كانوا له فداء..
كيف؟ (سؤال معلق كسؤال طيبنا).
وعندما عادوا في ظل الثورة ليكرروا اسطوانتهم
المشروخة، ونغمة فداء الدين، واتهام الآخرين بالكفر والردة وجدوا ما يستحقون من
استخفاف وتقريع وتجاهل، وأُلقموا حجراً، كان يستحقه المخلوع ليموت رمياً به، على
ما ارتكب من جرائم، لولا أن شفعت له شيبته، ليقضي عامين ذليلاً في إصلاحية، لعلها
تصلح بعض ما أفسد من آخرته.
إن الجماهير الهادرة التي خرجت لتفرح بنجاح ثورتها
تؤكد في كل يوم أنها الحارس الأمين للثورة، وأنها النبض الحي لها، وهي واعية بأن
الوطن باقٍ، والجميع إلى الزوال، وأن انحيازها ليست لأشخاص، بقدر ما هي للمبادىء.
ويسبب هذا الالتفاف حول الثورة سعاراً لمناصري النظام
البائد، فنراهم يوجهون سهامهم إلى “قحت”، لأنه كان رأس الرمح في المصير
الذي آل إليه نظامهم، كما أصبحوا يدافعون عن مكتسباتهم، كما هو الحال في تشبثهم
بالاتحادات والنقابات التي انتُزعت منهم بالقانون، بل تساءل أحدهم بلا حياء:
“هل لحل نقابات العاملين واتحاداتهم علاقة بقرار قحت رفع الدعم عن السلع،
وخاصة الوقود في الميزانية الجديدة بحيث يمر من غير معارضة”، كأن هذه
النقابات والاتحادات كانت تعتصم في الساحات حين يفعل النظام البائد ذلك، حتى حذف
من الأصفار ما يندى له جبين أي مواطن صالح، في محاولة يائسة لسترة عورة العملة
السودانية التي لا يمكن تداولها في غير البنوك السودانية.
والعجب أنني
قرأت من يرفع راية التحدي وهو يؤكد أنه لا سبيل لمصادرة أي مؤسسة إعلامية تتبع
للمخابرات، ولا تعليق غير أن هؤلاء جنّ جنونهم، فهم يعترفون علناً بأن أجهزة
إعلامية ومؤسسات صحفية كانت مملوكة لجهاز الأمن والمخابرات، فأي نوع من الصحفيين
من يرضى أن يكون في مثل ذلك الجهاز أو تلك المؤسسة؟ حقيقة نريد أن تفتح الأجهزة
المعنية هذا الملف بأسرع ما يمكن، حتى نعرف الصحفيين الذين باعوا ضمائرهم من أجل
حفنة مال أو منصب.
حق لكم أيها الثوار أن تفرحوا كما شاء لكم الفرح، وأن
تمضوا إلى غاياتكم بخطوات ثابته، فلا عودة إلى الوراء مرة أخرى، ومرحباً بكل من
يتوب إلى الله، ويتخذ السبل للتكفير عن سيئاته، والخزي لكل من أراد أن يواصل مسيرة
الكذب والخداع، كما يفعل غندور، وصحفيو النظام البائد الذين آن لهم أن يترجلوا بإرادتهم،
ويبحثوا لهم عن مهنة غير الصحافة، لأنهم لم يألفوا بعد -ولن يألفوا- صحافة
الديمقراطية والأجواء الصحية، حتى لا ينطبق عليهم المثل: “بعد ما كنت تربال
بقيت أرْوَتِّي”، (والتربال كلمة ذات أصل نوبي تعني المزارع أما الأرْوَتِّي
فهو الصبي الذي يجلس على تُكُم (مقعد) الساقية ويحث الثيران على الدوران، ودوره
ثانوي في مجال الزراعة: الشرح لعمنا أبو الجعافر- الكاتب الكبير جعفر عباس)..
والله (أرْوَتِّي ذاتو) كثير على هؤلاء المدعين.