انطلقنا صباحاً عبر شوارع واشنطن النظيفة إلى حي السفارات مستعينين بخريطة الجوال، وحين اقتربنا تركنا سيارتنا في مرآب، ثم سرنا راجلين حتى بلغنا سفارتنا التي تلاصقها سفارة إحدى دول غربي أفريقيا، تليها سفارة أوربية يرفرف على ساريتها بجانب علمهم علم الاتحاد الأوربي المعروف بخلفيته الزرقاء، والنجمات الـ ١٢ التي تأخذ شكل دائرة رمزاً للوحدة والتكامل، والدول الأعضاء الـ ٢٨ الحالية نفسها تشكل منطقة اليورو العملة الموحدة.
وتوجد في واشنطن ١٧٨ سفارة وبعثة دبلوماسية تمثل الدنيا بأطرافها.
صعدنا أدراجاً قليلة ووجدنا أنفسنا في صالة الاستقبال، وعلى نافذة مكتب باليسار تجلس موظفة فلبينية تجري اللازم تجاه المتعاملين، فانشغل بسام بطلب تأشيرة الدخول، وجلسنا في كراسي مريحة صفت كمجلس جانبي.
بعد دقائق جاء من الداخل دبلوماسي مهندم فحيانا، ودخل مكتبه المتاخم ثم علا صوته وهو يجري سلسلة من المكالمات ويرد على بعضها.
على منضدة جانبية جك بأكوابه وأواني شاي وعلبة حلاوة لتكريم الضيوف أما نحن فأهل الدار.
أقصى اليسار في مدخل الصالة كتابان ملونان ضخمان تصفحتهما، فإذا هما لكاتب واحد أحدهما بعنوان “النهر الخالد” يحكي عن النيل ويزدان بمناظر رائعة ناطقة والآخر باسم “الخرطوم .. قصة مدينة”، وهو يبرز تاريخ العاصمة وواقعها مدعماً بصور جميلة. وقد راقني هذا العرض الثقافي السياحي ليته يعمم في سفاراتنا وقنصلياتنا.
يدخل خواجات ويشرعون في إجراءات دخول السودان.
جلس معنا شاب من مدني وهو جامعي جاء لتوثيق شهادة ميلاد طفله. كان يحكي تجربة قدومه وعمله وصبره حتى نال خبرة أهلته للارتقاء مركزاً ودخلاً. وأوصى القادمين بعدم التعجل، والرضا بالقليل، ونيل المطالب بإثبات الذات مع مدار الزمن.
لما تعطل العمل بانقطاع النت دخلت مكاتب السفارة مستطلعاً، ووجدت مسؤولاً يجالسه آخر يتحدثان، فقدمت لهما نفسي فرحبا بي بحرارة.
عدنا لسيارتنا ومضينا في الشوارع الفسيحة المزدانة بأشجار الكرز البهية، وفوانيس الشوارع الكبيرة التي تشبه قادوس الساقية أو القلة .. وإن شئت الجرة.
توقفنا حيث صالة كبيرة تصطف فيها ماكينات الغسل والكي لمن يشاء مقابل نحو ٥ دولارات لحزمة ملابس، فأودع في إحداها بسام ” بقجة ” ملابسنا التي تحتاج إلى تنظيف، وأبرزت الشاشة أن تجهيزها يحتاج إلى ٤٠ دقيقة فذهبنا نتناول فطورنا في فرع مطاعم ماكدونالدرز قريب، ووجدنا سائحة صينية تجاورنا التي تبسطت معنا بإنجليزية محدودة تؤدي الغرض، ودعيناها إلى مشاركتنا الطعام فشكرت. وبات الصينيون في السنوات الأخيرة يطوفون الدنيا كالخواجات بعد أن غمرتهم “ترطيبة ” الإنتاج العالي والعمل الكثيف، والتصنيع المذهل، وهي لا غير مفتاح التقدم.
عدنا وأخذنا ملابسنا النظيفة واندفعنا تجاه المسلة العالية المنتصبة عند الحديقة الوطنية، التي أنشئت تقديراً لجورج واشنطن الرئيس المؤسس قائد القوات التي انتصرت للولايات المتحدة البازغة، الذي تحمل الدولارات صورته، ويلقب بالأب هنا احتراماً بحسبانه رمز الاستقلال وحادي ركبه كالأزهري في السودان. وينتهي النصب بجزء مخروطي تومض على قمته الشاهقة أنوار براقة.
ولفرط علو النصب البالغ ١٧٠ متراً ذي الأضلاع الذي يمتاز بلونه الرخامي الجميل يراه العابرون من كل الاتجاهات ومن مسافات بعيدة. وتحوي المسلة ١٦٣ ألف قطعة رخام وجرانيت وبنيت على قاعدة دائرية ترفرف عليها ٥٠ علما تمثل الولايات. وقد صممت على نسق المسلات المصرية لكنها ليست مصرية كما يشاع.
بعد استراحة في الحديقة ونحن نتابع قوافل السياح والزوار الذين لا يهدأ تقاطرهم من كل جنس ولون وحدب، اتجهنا إلى مبنى البرلمان الأمريكي الاتحادي المعروف بالكابيتول، الذي اختار له جورج واشنطن أرضاً مرتفعة جعلته بادياً من كل اتجاه، وتأخذ طبقاته العليا المسار الدائري المنتهي بقبة آسرة فيما يفوق ارتفاعه ٢٢٠ متراً. وتزدان بصورته البديعة بعض فئات الدولار.
سرنا بسيارتنا ببطء ونحن نحاول أن نتملى في جمال المبنى الجذاب المهيب ثم حاولنا التقاط الصور، ولكن أحد شرطة الحراسة تقدم نحونا بهدوء وأدب ليطلعنا بأن التصوير غير مسموح به من متن السيارات والمركبات.
بعد ذلك سرنا في أحياء واشنطن الجميلة في مسارات متعددة حتى نال منا التعب فدخلنا مجمعاً تجارياً ضخماً فخماً يتبع سلسلة “ووال مارت”، التي تملك أكثر من ٤ آلاف موقع داخل أمريكا وآلافاً أخرى في ٢٧ دولة حول العالم وهي أضخم سلسلة تجارية وصاحبة أعلى دخل عبر العالم. والفرع الذي نتسوق فيه يحوي كل ما يخطر على البال وما لا يخطر وتبضعنا بكم وكيف من مختلف المأكولات والأغراض والمشروبات. ولفت انتباهي الكم الهائل من الأمريكان الأفارقة الذين يتسوقون ولاغرو فتعدادهم في أمريكا يفوق ٤٠ مليونا، أي ما يوازي تعداد السودانيين بعد مضي ٤٠٠ سنة على جلب أسلافهم. وقد سافر بعضهم إلى إفريقيا هذا العام للاحتفال بهذه الذكرى في وطن الجدود. ويشكل التنوع العرقي ثراء ثقافيا واقتصاديا للمجتمع الأمريكي.
بحلول أول المساء مضينا إلى شقتنا في دائرة غير بعيدة من مكاتب صناع القرار الأمريكي، وعنده لمعت في ذاكرتي مقالة شهيرة ذات دلالات شتى بقلم كاتب عربي مرموق في خضم الانتخابات الأمريكية ذات مرة قال فيها:
أيها الأمريكيون
أحسنوا اختيار ” رئيسنا “!
واشنطن