بعد أن مضى شهر على زيارتي للخرطوم، قد أستطيع التحدث الآن، ولو بنزرٍ قليل. فلا يمكن لتلك المشاعر وهذه المحبة أنْ يترجمها المرء، وليس له إلا النقصان مهما أفاض.
أمسية الخرطوم، لا شك، أنها واحدة من أكثر مشاركاتي قُربًا إلى قلبي، لما فيها من أصدقاء وإخوة حرمتنا المسافة من اللقيا، رغم طول الصحبة، وعمق المودة، وطولها أحياناً.. وكذلك باعتبار السودان واحدة من أهمّ مكامن البهاء الشعري العربي على ضفتيه الباهرتين، الكتابة والتذوّق، وعلى فترتيه الماضية والمعاصرة.
وسأبقى ممتنًا لكريم الضيافة ورحابة المنازل والصدور عند أصدقائي وعند مثقفي وشعراء السودان الذين التقيتهم لأول مرة، ولجميل الدعوة من اتحاد الكتّاب السودانيين ومنتدى مشافهة النص الشعري ووزارة الثقافة. تلك الدعوة التي جاءت لتتوّج امنياتي وأحلامي القديمة في زيارة السودان، منذ سنوات طويلة، فرغم أنّ هذا البلد العميق مدعاة للقصد في ذاته، إلاّ أنّ هنالك إلحاحًا خاصًا في أعماق النفس، يشتهي قياس المسافة والشّبه بين الأرض ومنبوتها. يشتهي رؤية الأرض التي أطلَعتْ الشخصية السودانية الساحرة، التي أينما كنّا وجدناها على مقربة القلب والروح، وكيفما جفاها الوقت والحظ، لا تتنازل عن تحنانها، وسلامها، ومودّتها المجانيّة، وكرمها الصاعد من دماء الفطرة والسلالة.
الكرم عند أهلنا في السودان، عجيب وحقيقي. أنا رجل من البدو، أؤمن بأن الكرم سنام الأخلاق، وأن الكريم في وقت باكرٍ، هزم التاريخ والرجال والشعر، وأشهد أن الكرم في دماء السودانيين وفي عظامهم، يقدّمونه دونما ضجيج، فيكرمونك وكأنك المتفضّل عليهم بالإجابة، فحيّا بتلك الوجوه الكريمة التي تبرق في عيونها نجوم النيلين والمروءة والثورة المستحيلة.
لديّ الكثير من الأصدقاء السودانيين في الرياض ونجران والخرطوم وشمال السودان وغيرها من المناطق، أخشى أن أذكرهم فأنسى من يخجلني نسيانه، لكنهم نبلاء يحبون الله والبلاد، وسيتركون إشارتي للأرض والأهل تكفيني عناء الخجل. فيهم كل الأسباب التي تجعلني فخورًا بهم ما حييت، فما وجدّتُ أرحب منهم، ولا أعصى على الضيق والملل من حضرتهم. نعم الرفاق، في حياتي كلها، ما غابوا في يوم بأس ولا يوم سعد.. حضور حضور.
أهلنا في الخرطوم، تأكدّت بهم ومعهم من شيء لم أبحه لهم حينها كيلا تُحرج أرواحهم الأبيّة، لكنّي سأكتبه اليوم:
إنّ من يذهب للسودان كي يقرأ كتاباته لأهلها، سيجد الاصغاء المهيب، ذلك الذي تربض خلفه قطعان اللغة الصائدة والمخيّلات المُحلّقة، وقد يعود من عندهم بثقة المُمْتَحن، أو بأحمال ريبتهِ الفاتكة بما كتب. لكنّ الذي يذهب لبلاد السودانيين كي يقرأ لروحه وميلاده تلك الكتابة الباهرة في يومياتهم الطيّبة، وأعينهم وطباعهم، ولغتهم، تلك الكتابة التي يتركها بريق فتاة بحيّهم المتعثّر، مَنْ يقرأ تلكم لروحه فسوف يعود من السودان خفيفًا من الشِعر، مثقلاً بالقصيدة.
سلامٌ على السودانيين، سلام الأهل، والصحب، والخِلّان.