عوض السوداني..
لا أعرف بقية اسمه..
بقال كان في حارتنا..
رغم تقدم سنه بالنسبة لنا.. لا أدري لماذا لم نكن نناديه (عم عوض)
مثل عم أمين الخباز أو عم عبده الفوال..
حتى الذي كان يبيع اللقيميات على عربة تتجول في الحارة كنا نسميه عم سعيد.
ما عدا هو.. كان عوض!
عوض فحسب..
كان عوض يفتح أبواب بقالته صباحا .. ثم ينتظر قدوم أحد من صبية الحارة.. ليعطيه خمسة ريالات..
امض إلى المكتبة وأحضر لي جريدة عكاظ وجريدة المدينة..
وبقية الخمسة اشتر لنفسك بها مجلة.
(ماجد) الإماراتية أو (سعد) الكويتية وأحيانا (سمير) المصرية..
بالمناسبة لم أكن أحب هذه الأخيرة كثيرا.
كثيرا ما كنت أنا من يظفر بذلك المشوار المربح..
كنت أقطع المسافة إلى المكتبة بحماس.. ولكن سرعان ما طورنا جميعا آلية تعاونية بحيث تطوف المجلة علينا كلنا قبل أن تؤرشف.
ما لبثنا بعد ذلك أن صرنا نأخذ الصحف من عوض أيضا بعد فراغه منها..
عوض كان بشوشا دائما.. يحب أن يحدثنا عن السودان والفروق بين العادات في بلاده والعادات لدينا..
مع ذلك لم يكن من النادر أن يضيق بصخبنا ويطردنا بكل بساطة:
“أمشي من هنا.. دقوا راسك انت واياه.. ثاني ما تجلسوا عندي”.
كنا نجلس عنده في اليوم التالي.. لأننا ننسى أنّه طردنا وأظنه كان ينسى كذلك!
يحب أن يمتحن معلوماتنا ويستعرض ثقافته لدينا .. في الحقيقة كان هو أكثر من في الحارة ثقافة!
“عوض قال”.. يا لها من حجة عندما نستعملها!!
استعرت منه ذات يوم كتابا مجلدا بعد إلحاح.. لا أتذكر ما الذي جذبني إليه؟
في البيت عندما اطلعت عليه.. عرفت أنه “ألف ليلة وليلة”.. كم كان هذا مثيرا.. بسرعة الضوء عرف أغلبنا الكثير عن محتويات الكتاب وحفظوا معظم الأبيات الشعرية الخارجة التي احتواها.. (بعضها ما زلت اتذكره حتى الآن).
لقد أشعرتنا قراءة ذلك الكتاب أننا كبرنا.
عوض كان يردد الكثير من المفاهيم التي لم نكن ندرك معناها ولكن لما كبرت عرفت أن أغلبها كانت مفاهيم صوفية..
هذا إلى جانب المفردات التي توهمنا معرفة معناها حينها (بعد شرحه طبعا) …مثل (الديموغراطية، الصهيونية، الحرب الباردة.. الخ)
كان مولعا بالسياسة وبالرياضة خصوصا “كرة الغدم”.. كان مريخابي في السودان واتحادي في جدة. هكذا كان يصف نفسه عندما يجادل الأهلاوية في الحارة.. طبعا لم يكن يتوقف عن ترديد المعلومة (الصحيحة طبعا) : “انتو ال علمكم الكورة منو؟ لو ما في سودانيين في جدة انتم زاتكم ما عرفتوا كورة يعني شنو”.
رحل عوض بعد سنوات إلى حيث لا نعلم ولكنه ترك في تلك الحارة البسيطة كثيرا من الذكريات وكثيرا من الحب وكثيرا من الشغف بالمعرفة..
لاأظنني كنت سأصبح مهووسا بالقراءة على هذا النحو لو لم يقم عوض في حارتنا.
أظنني أستطيع التخمين لماذا كنا نناديه (عوض) فقط..
لقد كان صديقنا.
كاتب سعودي