يدور جدل كثيف حول موازنة ٢٠٢٠ التي تعتزم الحكومة الانتقالية إعلانها غدا ، و بالتحديد حول هل يتم رفع الدعم عن بعض الحزم المدعومة و خاصة الوقود ام لا يتم . أزمة الجدل الدائر يكمن في انه تحول عند الكثيرين من جدل علمي اقتصادي إلى جدل ايدولوجي، و من جدل موضوعي إلى صراع سياسي .
لا يمكن باي حال من الأحوال الشك في مقدرات و كفاءة وزير المالية الحالي د ابراهيم البدوي و لا في رئيس مجلس الوزراء د عبدالله حمدوك فكلاهما اقتصاديين بارزين في مجالهما يحملان الخبرة العلمية و العملية الكافية للتفريق بين الأساليب الاقتصادية التي تنفع الوطن و التي تضره ، كما أنهما الآن في موقع تاريخي حساس و خطير ينبني عليه مستقبل البلاد برمتها ، و لذلك لا يمكن الافتراض أنهما سيتهاونان و يذهبان في طريق يقود البلاد إلى التهلكة و الثورة إلى الفشل .
أنصار عدم رفع الدعم بنوا رفضهم على ركيزتين ، الأولى ان حكومة المخلوع طبقت هذه السياسة و فشلت فشلا زريعة بل و قادت إلى ثورة سبتمبر ٢٠١٣ ، و بالتالي تطبيقها الان قد يقود إلى ثورة مضادة لثورة ديسمبر . الركيزة الثانية ان رفع الدعم هو سياسة البنك الدولي ( الرأسمالي ) .
نعم استخدمت حكومة المخلوع سياسة رفع الدعم و لكنها لم توجه بالمقابل أي حزم مساعدة لحماية الشرائح الضعيفة ، و المبالغ التي تم جمعها من رفع الدعم ذهبت لدعم جيوب الكيزان و شركاتهم و مؤسساتهم خارج السودان ، و دونكم تصريح المصرفي و القيادي بالحرية و التغيير محمد عصمت بأن جملة الأموال المنهوبة من قبل الكيزان و الموجودة خارج السودان تبلغ ٦٤ مليار دولار . لذلك لا يمكن استخدام هذه التجربة السيئة التي تمت فيها سرقة الشعب لا إصلاح اقتصاده دليلا على فشل سياسة رفع الدعم ، بل يجب توقع ان تذهب كل الاموال التي ستوفرها سياسة رفع الدعم في حكومة حمدوك إلى جيب المواطن البسيط و لمصلحة الشرائح الضعيفة التي تستحقها او عبر خدمات صحية و تعليمية و زراعية و وظائف و وسائل إنتاج يستفيد منها الفقير و الغني على السواء ، و في هذا خير كثير .
رفض سياسة رفع الدعم فقط لأنها سياسة البنك الدولي فيه تطفيف و غلو ايدولوجي و لا يعبر عن رفض موضوعي ، فمؤسسة البنك الدولي ليست وليدة الامس بل هي مؤسسة قارب عمرها المئة عام ، و هي مؤسسة تتبع للامم المتحدة و لا تتبع لهوى دولة معينة و لا سياسة دولة معينة و تضم في عضويتها اكثر من ١٨٠ دولة ، و لها انجازاتها الضخمة على مستوى مساعدة الاقتصادات العالمية ، نعم حولها ملاحظات شأنها في ذلك شأن اي مؤسسة دولية و لكن هذه الملاحظات لا ترقى لمستوى نسف فوائد و قيمة البنك الدولي و رفض سياساته بالكامل جملة و تفصيلا و بدون حتى الاطلاع عليها و مناقشتها .
نعم هناك دول نهضت بدون ان تعتمد على جراحة سياسة البنك الدولي ، و لكنها استخدمت جراحة من نوع آخر دفع تكلفتها المجتمع و تحملتها الأحزاب السياسية ، فهل مجتمعنا و أحزابنا السياسية قادرة على تحمل ما تحملوه ؟
اول الانواع كانت هي جراحة المصالحة الوطنية ، لا يمكن لدولة ان تنهض لوحدها اعتمادا على مصادرها و كوادرها البشرية اذا لم تصل إلى مصالحة وطنية سياسية و إجتماعية عميقة الجذور تنهي كل أشكال الخلافات السالبة و المكبلة للاقتصاد من حرب و إقصاء و عزلة ، و تقود لتوحيد الشعب معا في صف واحد لمواجهة انهيار الاقتصاد بزيادة العمل و الإنتاج و الاعتماد على الذات ، فهل نحن مستعدون لمصالحة وطنية من هذا القبيل ؟ مصالحة تضم ضحايا دارفور و ضحايا ثورة ديسمبر و ضحايا فض الاعتصام و الكيزان و الدعم السريع و جهاز الأمن و الإسلاميين و اليساريين و أحزاب الوسط في بوتقة واحدة ؟ هل هذه المصالحة ممكنة و هل العفو و التجاوز ممكن ؟ اذا كان هذا ممكنا فيمكن الحديث عن الجدوى الاقتصادية لعدم رفع الدعم و التدليل على قدرة وحدة الشعب على تجاوز كل النكسات و المضي قدما إلى الأمام.
النوع الثاني هو جراحة تجاوز الاختلافات بين الاحزاب السياسية ، في تجربة ماليزيا كما قال مهاتير محمد توحدت الأحزاب السياسية و تناست خلافاتها لانها كانت أمام خيارين ، مواصلة الصراع و ضياع ماليزيا او تجاوز الخلافات و النهوض بماليزيا ، و قد اتفقوا على تجاوز الخلافات و عبروا بماليزيا بدون مساعدة من البنك الدولي ، فهل أحزابنا قادرة على تجاوز خلافاتها بهذا الشكل؟ اذا استطاعت أحزابنا السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تناسي خلافاتها و الجلوس معا في طاولة واحدة و العمل كفريق واحد فإن الحديث ممكن جدا عن الجدوى الاقتصادية لعدم رفع الدعم ، و لكن هذه مهمة عسيرة جدا ان لم تكن مستحيلة .
بناءا على مشاهد الواقع ، من غير المنظور في المستقبل القريب إجراء مصالحة شاملة و ليس متوقع تناسي جميع الأحزاب السياسية لخلافاتها و وحدتها خلف نهضة الوطن ، لذلك ليس أمام حمدوك و البدوي الا السير في خط الجراحة الضرورية للنهضة عبر اعتماد حزمة رفع الدعم تدريجيا مع توفير ما يقلل صدمة هذا الإجراء على الشرائح الضعيفة .
لا نطمع من أنصار عدم رفع الدعم تجاوز نظرتهم الايدولوجية تجاه البنك الدولي ، و لا قيادة مصالحة وطنية عميقة ، و لا توحيد الأحزاب السياسية بمختلف ميولها و توجهاتها الفكرية ، و لكننا نطمع ان يثقوا في حمدوك و البدوي ، أن يعطوهما الفرصة لخوض هذا التحدي ، فالإجماع الشعبي الذي يحظى به حمدوك و حكومته سيوفر الغطاء اللازم لتجاوز كل مضاعفات هذه العملية الجراحية المعقدة و اللازمة لنهضة الوطن .
sondy25@gmail.com