في اللحظات الأخيرة من عمر الاستعمار انضم المنادون بالإتحاد مع مصر إلى شعار الوطن الخالد السودان للسودانيين الذي رفعته الحركة الاستقلالية ، و في جلسة تاريخية للبرلمان في ١٩/ديسمبر/١٩٥٥ اقترح عبدالرحمن دبكة النائب عن حزب الأمة على البرلمان إعلان استقلال السودان و قام بالتزكية مشاور جمعة سهل النائب عن الوطني الاتحادي و من ثم اعلن الاستقلال من داخل البرلمان ، هذه الوحدة التاريخية جسدت قدرة أبناء الوطن على التوحد حوله و الابتعاد في اللحظات الحرجة عن المناداة بأي تبعية ترهن مصلحة الشعب إلى الخارج .
قبل و بعد أستقلال السودان توافدت عليه ايدولوجيات متعددة من خارج الوطن ، و ذلك ضمن توافد هذه الأيديولوجيات على معظم دول الشرق الاوسط و افريقيا في ذلك الزمان . جاء الحزب الشيوعي بايدولوجية شيوعية الاتحاد السوفيتي ، و جاء الإخوان المسلمون بأفكار اخوان مصر ، و جاء القوميون العرب بأفكار قومي لبنان و سوريا و العراق ، و جاء الناصريون بأفكار ناصر و هكذا .
تمتعت الأحزاب ذات الايدلوجيات الوافدة بدعم عابر للحدود في ذلك الزمان، و بعضها ما يزال مستمرا حتى الآن ، و أصبحت هذه الأيديولوجيات الوافدة تلعب دورا أساسيا في السياسة السودانية ، و لأن الشعب السوداني يختلف عن البيئات التي نهضت فيها هذه الأيديولوجيات فان كثيرا من هذه الأحزاب اضطرت إلى إجراء معالجات على صيغها الإيدولوجية من أجل أن تجد طريقها للقبول لدي الشعب السوداني .
الحزب الشيوعي السوداني استطاع في فترة الستينيات ان يكون حزبا شيوعيا قويا ليس على مستوى السودان فقط بل على مستوى المنطقة العربية و الإفريقية، و لكنه ارتكب حماقة الانقلاب على الديمقراطية في عام ١٩٦٩ بقيادة نميري ، ثم دفع ثمنا غاليا حين حاول الانقلاب مجددا على النميري في عام ١٩٧١و فشل انقلابه ، و حدثت مذبحة كبيرة نفذها السفاح النميري أعدم فيها خيرة قادة الحزب الشيوعي ، و هي مذبحة لا يبدو أن الحزب تعافى منها حتى الآن و خاصة على الصعيد الفكري و النظري .
الأحزاب القومية العربية لم تستطع أن تنتشر بين الجماهير و ذلك لان تركيبة الشعب السوداني الافريقية العربية المختلطة ظلت عصية عن الإيمان بالنقاء العربي الكامل كما ظلت غير متماشية مع التخلي عن أصلها البنيوي الزنجي العريق ، و هو نفس الإشكال الذي واجهته الأحزاب ذات التوجه الافريقاني التي حاولت فصل السودانيون عن جذورهم العربية . لذلك ظلت هذه الاحزاب حكرا على اوساط نخبوية فقط ، مما جعلها مؤثرة فقط ضمن التحالفات المعارضة او تحالفات الحكم و لا تستطيع منفردة ان تشكل وزنا فارقا في العملية السياسية .
الإخوان المسلمون ارتكبوا ذات حماقة الشيوعين ، ففي الوقت الذي أصبحوا فيه قوة جماهيرية صاعدة و نالوا عبر حزب الجبهة الاسلامية المركز الثالث في الانتخابات العامة في الديمقراطية الثالثة في عام ١٩٨٦ ، قاموا بانقلاب البشير ضد الديمقراطية ، و هو ما أكد أن هذه الجماعة لم تكن اصلا تؤمن بالديمقراطية و تبادل السلطة ، و إنما كان لديها وهما ظنته أسمى من قضية الديمقراطية و هو بعث الدين ، و كانت النتيجة كما شاهد الجميع عبر ثلاثين سنة من حكمهم اذ لم يشهد الدين بعثا و لا تألقا بل تضررت صورة الدين بصورة لم يحدث لها نظير في تاريخ السودان .
في العالم الحاضر حدثت هزائم واضحة شعبية و سياسية للايدولوجيات ، انهارت الشيوعية في بلدها الام ، و ثارت الشعوب على الحكام البعثيين و القوميين في سوريا و ليبيا و العراق ، و ثار شعب مصر على الرئيس مبارك خليفة الناصرية ، و ثارت الشعوب ضد حكم الإخوان المسلمين في مصر و تونس و السودان .
قد تكون هذا الهزائم قريبة من فكرة فرانسيس فوكاياما بنهاية التاريخ و سيطرة الديمقراطية الليبرالية و لكن المهم داخل السودان ان هزائم هذه الأيديولوجيات داخليا و خارجيا افرزت في السودان أحزاب مؤدلجة ذات هوية مهزومة و بلا سند قوي خارجي كما كان في السابق، و بالتالي كان طبيعيا أن الأجيال الجديدة السودانية و هي تشاهد كل هذا الغروب لنجم هذه الأيديولوجيات ان تنفض عنها و ان تستعيد ايدولوجية الوطن الرئيسية التي استطاع بها الجيل الأول تحقيق الاستقلال متحدين و هي : السودان للسودانيين .
ثورة ديسمبر في تجليها الأسمى كانت هي هذه الهوية السودانية الأصيلة الجامعة غير المؤدلجة من الخارج ، هوية امتزجت فيها كل العناصر المتنوعة عرقيا و ثقافيا و دينيا و أنتجت هذا الخليط الساحر : السودان . ثورة ديسمبر اعادت للاجيال الجديدة ثقتها المفقودة في شخصيتها و هويتها السودانية ، في علم بلادها ، في نشيدها الوطني .
الوحدة التاريخية التي شكلتها ثورة ديسمبر قادرة على المضي بهذا الوطن إلى الأمام ، كما حققت هذه الوحدة الاستقلال من المستعمر في ١٩٥٦ هاهي الوحدة تحقق الاستقلال من حكم الإخوان في ٢٠١٩ ، و ترسم ملامحا مستقبلية لغد سوداني سيكون فيه للأجيال الجديدة دورا مؤثرا بطريقة لن يتوقعها او يتخيلها الكثيرون .
sondy25@gmail.com