من المفارقات الغريبة جدا في بلادنا أن أكثر الأماكن تواضعا واتساخاً هي عيادات الأطباء، تليها المطاعم ومحلات بيع الطعام .. وأكثرها أناقة ونظافة هي محلات بيع الأحذية .. !!
حاولت كثيرا أن أفهم هذه المفارقة وسألت كثيرين بينهم أطباء مشهورون لأعرف السبب ولكنني فشلت. قد يكون مفهوما أن تكون المطاعم متسخة نتيجة لعدم إلمام او اهتمام العاملين بالقواعد الصحية، أو لضعف الميزانية الذى لا يساعد على تحمل نفقات النظافة وزيادة عدد العاملين .. ولكن ما السبب الذى يجعل العيادات أوسخ الأماكن العامة على الاطلاق واكثرها تواضعا من حيث البيئة والاثاثات وكل شئ؟!
بعض العيادات لا يوجد بها ماء للشرب، وإذا وُجد فالحافظة متسخة ومقرفة تصيب الانسان بالغثيان، ويوجد كوب واحد قديم لاستعمال الجميع، بينما تحتم قواعد الصحة العامة خاصة مع طبيعة مرتادي العيادات ان تكون الاكواب من النوع الذى يستخدم مرة واحدة فقط . مراحيض معظم العيادات او بالأحرى (غالبية) العيادات تشجع الانسان على التبول او التغوط في ملابسه بدلا من استخدام المرحاض .. الكراسي مهترئة ومتهالكة، والوقوف على الرجلين ساعات طويلة أفضل كثيرا من الجلوس دقائق قليلة!
لا يوجد شيء نظيف داخل العيادة، بما في ذلك غرفة الطبيب التي غالبا ما تكون متربة تفوح منها رائحة الاتربة وفضلات الفئران، قديمة الأثاثات وباهتة الطلاء لدرجة انك تعجز عن معرفة لون الجدران الحقيقي، والجدران نفسه قديم وفى كثير من العيادات يعانى من مرض الجدري او آيل للسقوط ، وللعناكب غرام متبادل مع السقوف، أما المراوح فلا تسكت عن الصرير أو الهدير، ونادرا ما تجد مبرد هواء يعمل بكفاءة، إذا وجد في الأصل . الغريب أن هذا الوضع المزرى كان كذلك في الزمن الجميل عندما كان السودان دولة نظيفة وجميلة يضرب بها المثل في النظافة والجمال، وصفتها مجلة النيوزويك الأمريكية بـ (نقطة مضيئة في قارة مظلمة)!
تُرى ما هو السبب الذى يجعل العيادات اوسخ الاماكن، فالطبيب شخص متعلم بل هو في نظر الكثيرين القدوة ومضرب المثل والقائد الذى يستمع إليه ويطيعه الجميع، ولا يمكن ان نقارنه بعامل المطعم او البائعة التي تبيع الطعام على قارعة الطريق، ولا حتى بالموظف او المواطن العادي، كما ان الالتزام بقواعد الصحة العامة والنظافة الشخصية هو اساس الصحة والوقاية من الامراض، والاطباء اصحاب العيادات والاختصاصيون لهم دخول معقولة، وكثيرون تدر عياداتهم دخولا ضخمة وقد يكفى دخل يوم واحد لجعل العيادة جنة الله في الارض بها كل المقومات التي تجعلها تليق باسمها ووظيفتها، فما الذى يجعل أغلبية العيادات متواضعة ومتسخة ومقرفة لدرجة الغثيان .. ألا يخجل الطبيب من قذارة عيادته وهو ينصح المريض باتباع قواعد النظافة، وكيف يلتزم المريض بقواعد النظافة وهو يرى الطبيب الذى ينصحه يجلس وسط كومة من القاذورات والميكروبات اسمها (عيادة) .. والعيادة منها براء !
لماذا غالبية العيادات متسخة ومتواضعة حتى عيادات اشهر الاطباء واكثرهم ثراءً .. لماذا ليس ربع العدد او نصف العدد، أو ثلاثة ارباع العدد .. لماذا الغالبية، أين تكمن المشكلة إذا لم تكن مشكلة فلس او جهل .. هل هي ثقافة متوارثة بين الاطباء ان تكون عياداتهم وسخانة، أم انهم يرون المرضى غير جديرين بالنظافة والبيئة الصحية الجميلة المريحة؟!
عيب والله ان يكون الاطباء بمثل هذا المستوى من الاهمال الشديد للنظافة وقواعد الصحة العامة، وعيب أن يضطر الانسان لتوجيه مثل هذا النقد لحملة مشاعل النور وملائكة الرحمة وقادة المجتمع، وعيب أن تطاردهم السلطات لترغمهم على نظافة العيادات ومطابقتها لقواعد الصحة العامة وتحسين بيئتها .. واذا كانت تفعل ذلك مع الاطباء، فماذا تفعل مع الباعة المتجولين وبائعي الأطعمة على الأرصفة والطرقات؟!