كان الطقس شديد البرودة ليلة امس الاحد ونحن نحمل علي اعناقنا جثمان ذلك الرجل النبيل فضل الله محمد (ابو وائل) كما يحلو لنا ان نناديه به .. فهو الذي غرس في وجداننا حب الوطن اولا وحب مدينة الاحلام ثانيا كما كنت اسميها دائما في مذكراتي عنها .. ودمدني . نعم .. حملناه بعد تجهيزه وتشييعه من داره الجديدة بكافوري والتي لم يهنأ بها اكثر من عام حين انتقل اليها من داره السابقة بشمبات الاراضي. ولعل الله جلت قدرته اراد ان يرتحل الي دار اكثر رحابة وهي دار الخلود حيث تلتقي الارواح تحت رحمة خالق الكون . كان اصدقاؤه وهم كثر وبرغم انخفاض درجة الحرارة ليلة امس يتوافدون زرافات ووحدانا الي داره والبعض الاخر الي حيث المدفن بمقابر حلة خوجلي بدلا عن حمد التي اعلناها بالامس مسبقا. كنا نبحث عن الدموع فلم تستجب وكنا نبحث عن الكلام فلا نجده .. كان الكل في حالة وجوم تام ونحن بالمقابر .. ذلك ان الفقد كان كبيرا جدا ككبر قامة هذا الانسان النبيل الذي جمل حياتنا الابداعية باكثر مفردات القصائد رهافة حس وتشكيل وجدان وابتداع فلسفة جديدة في الشعر الغنائي لم يطرقها احد من قبله. فالشعر الغنائي في تركيباته المختلفة والمتعددة كان يتبع منحي واحدا وهو الاهتمام بمحاسن من تكتب فيها القصيدة .. وحين اطل فضل الله محمد منذ سنواته الباكرة وهو طالب صغير بمدرسة ودمدني الثانوية رأيناه يكتب الشعر بتلك اللغة الجديدة : يا مسافر حليلك وياحليل ابتسامك ياحليل الليالي الحلوات في غرامك ايام بالاشارة كنت ترد سلامك يا ما عيوني كانت تسهر من منامك من ارض المحنة ومن قلب الجزيرة. نعم … كان رفيق صباه الراحل الفنان محمد مسكين لها .. فقام بتاليف ذلك اللحن الشجي لها منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمان … وغيرها كثيرات لمسكين. الشاهد ان فضل الله محمد لم يكن صاحب اهتمامات بالصحافة السياسية في بداياته الاولي وهو يدخل الي كلية القانون بجامعة الخرطوم في العام ١٩٦٣م … غير ان حراك الجامعة آنذاك واختيار الطلاب له اهلته بان يفوز بواحد من مقاعد المجلس الاربعيني لاتحاد طلاب الجامعة . ولم يمض عام واحد الا ويشعل الاتحاد شرارة ثورة اكتوبر ١٩٦٤م الخالدة .. فاعتقلت السلطات كل اعضاء المكتب القيادي للاتحاد والذي كان برئاسة الراحل مولانا حافظ الشيخ الزاكي وقتها ليدخل معهم فضل الله معتقلا بمباني السجن الحربي. ولكن لم يمض اسبوعا علي الاعتقال وقد اشتعلت الثورة الشعبية بقوة ونجح الاضراب السياسي عن العمل حيث اعلنه نقيب المحامين وقتها الراحل عابدين اسماعيل فاعلن الرجل القائد الرزين الرئيس ابراهيم عبود التنحي والبدء في تشكيل حكومة الانتقال التي اختير لها الراحل التربوي الشهير سرالختم الخليفة كرئيس للحكومة حيث كان عميدا للمعهد الفني ( جامعة السودان حاليا) فتم اطلاق سراح اعضاء اتحاد الطلاب المعتقلين .. ليخرج فضل الله ويتجه الي مدينته ودمدني حاملا معه اول نشيد للثورة ليسلمه هناك الي الفنان محمد الامين الذي اسرع في تلحينه والانشاد به في اول احتفال بالثورة في ودمدني جنبا الي جنب مع نشيد اصبح الصبح للفيتوري ومحمد وردي وقد كان وردي وقتها في اجازة عرسه الثاني بودمدني من الراحلة السيدة علوية محمود رشيدي ( ام مظفر وجوليا). فجاء نشيد فضل الله الذي ابهر شعب السودان بصوت محمد الامين الذي يلهب المشاعر: اكتوبر واحد وعشرين ياصحو الشعب الجبار يالهب الثورة العملاقة يا مشعل غضب الاحرار ثم امتدت بعد ذلك رحلة الغناء الجميل والانشاد الاجمل… وكما قلنا فان فلسفة القصائد العاطفية عند فضل الله محمد كنا نعتبر مفرداتها كانها ( ونسة عادية ) لانها تختلف في صياغتها عن الشعر الغنائي المعتاد… ونلاحظ تلك الونسة الغنائية في كل اعماله وقد تفهم الفنان محمد الامين مضامين تلك الونسة تماما .. فكان متفردا في اختيار الالحان ذات النقلات والمقامات الموسيقية فيها كلها والتي لم تكن تسير علي ايقاع او ميلودي واحد . فلنحاول استعراض تلك الونسة الغنائية: قلنا ما ممكن تسافر … نحن حالفين بالمشاعر لسه ما صدقنا انك … بجلالك جيتنا زائر السفر ملحوق … ولازم انت تجبر بالخواطر. واردفها بالكثير من الاعمال العاطفية والوطنية حتي مرحلة ( المجد للالاف تهدر في الشوارع كالسيول .. يدك زاحفها قلاع الكبت والظلم الطويل). ليعود الي غناء الونسة في الجريدة: يعني لازم تقري حسه مقال بحالو او قصة كاملة وامري لله . وحين امتهن فضل الله الصحافة والتي اصلا كان يراسلها من ودمدني الثانوية تحت اسم (ابن الجزيرة) فأن في ذلك قصة قالها لي شخصيا وقد كنا وقتها نعمل بدولة قطر ونزور القاهرة من وقت لاخر خلال سنوات الانقاذ المرعبة حين انتقلت الخرطوم الجريدة للصدور من القاهرة حيث كان ذلك هو قرار ناشرها د. الباقر احمد عبدالله وقد لحق به فضل الله وفيصل محمد صالح ومحمد مصطفي الحسن وكواكب اخري.. قال لي فضل الله ان اسباب تركه للعمل في مجال القانون هو انه اثناء تعيينه عقب التخرج بديوان النائب العام والذي كان يشغله كوزير المرحوم د. زكي مصطفي ان قال له ليس بالضرورة ان تحصر نفسك بمهنة النيابة طالما كانت لديك الملكات الصحفية لانه يمكنك ان تحقق فيها نجاحات اكثر. فاقتنع فقيدنا بهذا النصح ومن وقتها امتهن الصحافة متنقلا مابين الراي العام والسودان الجديد ثم الايام .. ليستقر رئيسا للتحرير لصحيفة الصحافة في ذلك الزمان من حقبة سبعينات القرن الماضي .. الي ان اسس مع صديقه د. الباقر صحيفة الخرطوم في حقبة الثمانينات . وبرغم رهق العمل الصحفي في العديد من الحقب السياسية التي مرت علي السودان خلال الخمسين عاما الماضية فان الاستاذ فضل الله كان يدير دفة العمل الصحافي بكفاءة عالية ويقود دفة مراكبه عابرا بسلام كل الامواج الهائجة التي كانت تعترض طريقه لتصل رسالته الي كل الناس بلغة اقناعية سلسلة. فلم يكن يتبع اسلوب المهاترات التي تسود صفحات الصحف السياسية والرياضية معا بسبب فقر اداء العديد من الصحافيين الذين لا يمتلكون القدرات الراقية للارتقاء بالمهنة فيجنحوا نحو الشتائم معتقدين انهم يؤدون رسالة التنوير. لذلك نجد ان معظم الصحافيين من جيل الشباب الذين عملوا تحت ادارة فضل الله محمد يتميزون باداء صحفي راق ومبهر وقد جبلوا علي ذلك ولم يحيدوا عن هذا المسلك الراقي المتقدم في الكتابة. وحتي نحن الذين نتعاون بالكتابة في الصحف لسنوات عديدة قد تعلمنا جيدا من مدرسة فضل الله محمد في الكتابة والتحليل والتوثيق والخبر حين كتبنا فيها لاكثر من عشر سنوات بالخارج والداخل وهي التي قدمتنا للناس في الدنيا كلها. رحم الله استاذنا الجليل فضل الله محمد ايقونة الصحافة السودانية.. وطرح البركة في ذريته واهل بيته واحسن الله عزاءنا جميعا. وبرغم ان السفر ملحوق إلا ان فضل الله قد سافر دون رضا .. لكنه لرضاء الله تعالي .ولا نقول الا مايرضي الله. انا لله وانا اليه راجعون.