أوقفنا سيارتنا ودرنا حول وزارة الداخلية في قلب واشنطن فإذا هي ضخمة، فخمة ثم حاولنا زيارة البيت الأبيض من الداخل فأجاب الاستقبال بأن الدخول يقتصر على حملة الأذونات والمواعيد. سرنا حتى نهاية السياج الملحق ثم انعطفنا يسارا فوجدنا أنفسنا أمام واجهة جميلة وعلى فنائها نصب يعلوه طائر ذهبي مجنح.
تقدمنا قليلا ويمنانا حديقة ظليلة مديدة وعلى بعد خطوات توقفنا نتأمل واجهة البيت الأبيض الخماسية الزجاجية الرائعة طويلا والتقطنا صورا عديدة وسط حشود من الزوار من كل فجاج الأرض فيما يتمشى عسكري مدجج بسلاح أوتوماتيكي في يقظة وسياج فاصل يمتد بيننا. ويضم أشهر القصور الرئاسية ١٣٢ غرفة و٣٥ حماما وأشرف على بنائه جورج واشنطن فسكنه الرئيس الثاني جون آدمز. وقد بنى البرلماني، رجل الأعمال الثري برطم ابن جزيرة مقاصر .. دنقلا مسكنا فخما على غراره في حي كفوري الراقي في بحري.
بنهاية المبنى جلسنا نتسلى بتناول عصاير مع أخذ قسط من الراحة على أرائك جميلة فتموضعت إثيوبية اكتفت بما قل من ملبس أمامنا، التي انهمكت في مكالمة طويلة بلغة ألمانية طلقة ونبرة رقراقة رومانسية تتبدى في محياها رغم جدية الألمان المعروفة.
عبر الشارع على اليمين مجموعة من المتاحف ودور الوثائق المتاح دخولها مجانا، التي تحوي كنوزا قيمة بينها وثائق سودانية مهمة لكن الاطلاع عليها يتطلب وقتا لا نملكه. درنا يسارا فوجدنا شابتين مليحتين تشرعان في ركوب دراجتين بخاريتين بزي رسمي موحد فتجاوزناهما إلى واجهة مبنى وزارة الخزانة الراقية حيث كان موظفوها وزوارها ينشطون خروجا ودخولا وقبالتها عند بستان زاهر مرشدة تشرح لفوج سياحي مكنوزات ما حولهم من أبنية وعدسات التصوير لا تهدأ.
أسرعنا عائدين إلى سيارتنا وقد انتصف النهار وسرنا على مهل وسط مبان تاريخية وحديثة مركزية ذرووية تضم نصب رؤساء سابقين مشاهير مثل جيفرسون ولنكلن. وبعد نحو ساعة وبعض ساعة ها نحن في مداخل ولاية فرجينيا، التي كانت أول مستعمرة أسسها الأوربيون وبنوها بجهودهم، مستعينين بطاقات الأفارقة المستقدمين. وهي ولاية زراعية في الأساس ولكن الصناعة تقدمت عليها وهي منصة لتصدير رقائق الكمبيوتر وغيرها من الأجهزة، وتسمى مهد الرؤساء ولا غرو فقد أنجبت ٨ من الزعماء الأمريكيين. وتقطنها جالية سودانية كبيرة حجما وأثرا.
توقفنا أمام السوق العربي حيث تصطف محال عديدة تحمل لافتات باللغتين الإنجليزية والعربية وأمامنا عمارات شاهقة لأثرياء عرب امتلكوها منذ عقود. وصلنا بعد وقت وجيز العزيز الأستاذ محمد عثمان وردي وكان اللقاء وكان الهناء عناقا واحتضانا وتراحيب عربية ونوبية غيداقة. ونحن نتجاذب الحديث رحنا نطوف على المحال .. منها المصرية والشامية وأمام متجر سوداني إعلان يبشر بوصول كمية جديدة من النبق واللالوب من الوطن مباشرة ما زرع ابتسامتي. ولست أدري لم تجاهل الدوم! هلا .. هلا جاء اللحظة من مدينته التي تبعد ساعتين العزيز الأستاذ محمد عبد الله شريف أبوبكر خصيصا لرؤيتنا والترحيب بنا فيما قدم وردي من مسافة ساعة.
الاحتضان الحار المدفوع بالشوق العارم تسبقه عبارات الترحيب المنهمرة سيد الموقف العاطفي. يسير موكبنا الصغير الذي تغمره سعادة اللقاء تجاه مطعم يمني رحيب أنيق يستقبلنا مشرفوه بحفاوة فنأخذ مكانا قصيا قصد التفرغ للأنس الجميل دون أن تشغلنا حركة الزبائن.
بعد حصة من المسامرة الآسرة اختار كل منا ما يود تناوله من طعام. وبعد حين امتلأت تربيزتنا بمأكولات متنوعة ألوانها وهيئاتها لكنا أقبلنا أكثر على الفاصوليا المطبوخة بطماطم مع خبز التميس الحار، الأفغاني المنشأ الذي اعتدناه في السعودية، خاصة مع الفول والعدس وهم ينتجونه بلصق العجين على جدار الفرن البلدي اللاهب ثم يخرجونه مقلبين وجهه الآخر سريعا على الفرن المتقد حتى لا يحترق.
كان غداء وغذاء ودواء للبطون والنفوس معا بالونسة الدفاقة التي تقلبت بين الشأنين العام والخاص ولاسيما شؤون أهلنا وشجونهم في الشمال ولكنا توقفنا أكثر في محطات رموز مناطقنا وشخصياتها المفتاحية وذكرياتنا التي انداحت كنهر يتدفق مدرارا. ولما تزركش السمر السلسال وتزخرف حكيت لهم مواقف مشهودة امتاز بها أجداد الجلساء اتسمت بالشهامة والإيثار وكيف أنني أشعر بأن أجيالنا الماثلة واللاحقة لن تساويهم أفضالا وفضائل. وبعد تداول وصل مجلسنا إلى أن التطابق صعب لاختلافات الأمكنة والأزمنة والظروف غير أن الأجيال المتوالية تحمل حتما بعض خصائص ذلك الإرث العظيم وخصاله ونبله. وفي قلب الضحكات والقفشات المترعة طرحت سؤالا يقلقني: إلام ستكابدون مرارة الاغتراب والبعد عن مراتع الصبا ومهاد الذكريات ودفء الوطن أم ستمضون أشواط العمر كلها في المرافئ القصية؟! وجاءت الإجابات مترعة بأمنيات العودة حالما يستقر الوطن.
من فرط متعة اللقاء وروعة الأنس الممراح كنا نؤجل الانصراف حتى حل المساء فخرجنا مرغمين بعد لقطات تذكارية وكان الفراق حارا، صعبا، بل قاسيا فتكرر الاحتضان ثم مضى كل إلى سيارته متلفتا، متحسرا. بدوري مشيت متثاقلا وفي نفسي شيء من حتى لفراق مبدعين باذخين أرى فيهما امتدادا لولعي بالكتابة وشغفي بهوايتي الصحافة والإعلام ولأمرين آخرين: عدم تمكني من تقبيل جبين الكابلي الذي يعيش قريبا من موضع لقانا احتراما لراحته، الذي سيحتضنه الوطن بحفاوة الشهر الآتي، ورحيل صديقي الوسيم الأنيس عزمي أحمد خليل صاحب ديوان ” حان الزفاف “، شاعر الأغاني الرقيقة، الذي كان قد اشترط على أن أقضي معه أياما هنا فور وصولي أمريكا ولكن القدر أبى! نجتاز جسرا رابطا بين فرجينيا وواشنطن ونهر بوتوماك الوادع الذي ينساب للأطلسي القريب تنعكس على صفحته الهادئة، الساحرة أضواء المباني والشوارع المتاخمة مجسدة لوحة سريالية بديعة ثم ندخل نفقا يمتد طويلا نحو ميلين لنخرج منه إلى شقتنا ونسيمات العشية تدغدغنا عبر شوارع العاصمة الأمريكية التي لا تنام، وإن بدت ناعسة، مستكنة!