رغم إيماننا النابع من روح الثورة بأن مشكلة البلاد الإقتصادية لن يستقيم أمر معالجتها دون وضع رفع الدعم عن المحروقات وبعض السلع الأخرى في مقدمة قائمة برنامج تدارك الأزمة أو الإنهيار الإقتصادي ، إلا أن بعض الدواء قد يتعذَر أو يُحظر على المريض تناولهُ لأسباب أحياناً قد تكون متعلَّقة بالحفاظ على حياته ، وفي الواقع علمياً وعملياً كثيرٌ من المعالجات لها من (الآثار الجانبية) ما قد يجعل العِلة الأساسية أهون من ما يُمكن أن يسبِّبه الدواء من (إنتكاسات) قد تودي بحياته وبذلك يكونُ (تأجيل) التداوي ثم البحث عن (بدائل) أخرى أجدى وأنفع ، موازنة العام 2020 التي كثُر اللغط حولها تعتمد بنسبة عالية على بندين فيهما من الخطورة ما يمكن أن يودي بالإقتصاد السوداني إلى المهالك إن لم تتحقَّق نتائجهما كما يتمنى وزير المالية ومؤيِّدي ميزانيته التي لا يخفى على (حصيف) إمكانية مساهمتها الفعَّالة في تأجيج نيران الثورة ضد الثورة وكذلك فتح شهية الثورة المضادة التي هي في الأصل تتربص عن قرب للأصطياد في الماء العكر.
أما البند الأول الذي تعتمد فيه الموازنة مواجهة آثار رفع الدعم التدريجي عن المحروقات على الوضع المعيشي ، بزيادة الأجور بنسبة 100% ، هو بمثابة (لغم) قابل للإنفجار إذا ما تم تقييمه عبر تجارب إعتماده في ميزانيات سابقة نفذتها حكومة الإنقاذ البائدة ، إذ أن حركة إرتفاع الأسعار في الأسواق كانت على الدوام تتوازى تلقائياً وتتناسب أوتوماتيكياً مع مستويات السيولة النقدية التي تتوفَّر في السوق ، فعبر تاريخ فكرة محاولة رفع الضغوطات المعيشية عن كاهل محدودي الدخل عبر زيادة الأجور كانت مافيا الأسواق على إستعداد دائم لإمتصاص هذه الزيادة وتحويلها إلى هوامش ربحية تستهدف خفض تكلفة المُنتج على المورَّدين وتجار الجملة خصوصاً إذا إستمرت السياسات الضريبية والجبائية كما هي ، وبذلك يصبح رفع الدعم عن المحروقات ومعالجة آثاره بمضاعفة الأجور مجرَّد تعديل في الإحداثيات والأرقام لتظل النتيجة واحدة ، خصوصاً إذا واصلت الحكومة في إنتهاج مبدأ الإقتصاد الحُر وعدم تطوير وتفعيل أنظمة الرقابة على الأسواق والأسعار.
أما البند الثاني المتعلِّق بإعتماد الموازنة على نسبة موارد بلغت الـ 53 % للمنح الأجنية ، يجعل حدوث كارثة الإنتكاسة على مستوى الضغوط التي سيعانيها المواطن أمراً ممكناً و قابلاً للتفاقم بما هو أكثر من وضعه الحالي ، لو لم تتحقَّق هذه المنح حسب التوقعات والتفاهمات التي تم إعتمادها مع الدول والمنظمات المانحة ، فعدم تحققها بالكامل أو تأخَّر وصولها يجعل موازنة العام 2020 في مركب تتناوشها الأمواج ، وأول ضحاياها سيكون المواطن البسيط الذي أصبح مُجمل حلمهُ أن يبقى الحال على ما هو عليه ولا يتفاقم.
أما من الناحية السياسية فلا يساورني شك في أن جزءاً كبيراً من شريحة الذين يملأون الأسافير بالترويج لموازنة 2020 وإستراتيجية رفع الدعم التدريجي من المحروقات هم ذات الدولة العميقة التي نسعى إلى تفكيكها ويراهنون على أن تؤدي هذه الموازنة إلى خروج الشارع ضد الثورة وحكومتها الإنتقالية ، حسناً فعل تجمع المهنيين السودانيين حين أعلن إحتياج هذه الموازنة إلى مراجعات ومعالجات أهمها كل ما يتعلَّق برفع الدعم عن المحروقات والمستوى الأمثل والعادل للحد الأدنى للأجور ، فضلاً عن إعتماد ميزان الإيرادات بنسبة عالية على المنح الخارجية ، كما نتوقع من حكومة الكفاءات الإنتقالية أن تُفضي ما في جُعبتها من بدائل وإبداعات لإيجاد (مخارج) أكثر (أمناً) على الوطن والمواطن وثورته المجيدة.