إثر تغلب الرئيس ترامب على منافسته المدعومة حزبياً هيلاري كلنتون، وإثر وصول ماكرون للرئاسة من دون غطاء حزبي، تواترت استنتاجات في مجال الفلسفة السياسية مفادها أن التنظيمات الحزبية – كما عرفناها- أضحت في مهب رياح عاصفة، وأن أدوارها تتلاشى.
وثمة أسئلة أطلت برأسها تحاصر الأحزاب الغربية عموماً، فضلاً عن مثيلاتها في البلدان التي تستوطنها الشمولية. وفي أثناء ذلك تطاير حبر كثيف يشخص الظاهرة، وكانت المحصلة ما يشبه الاتفاق بأن صعود اليمين المتطرف على المسرح السياسي صار قاب قوسين أو أدنى، ولا بد من قبوله بوصفه حقيقة تؤشر لأفول شمس التجربة الحزبية التي كثيراً ما اعتراها الضعف وشغلتها الصراعات العبثية.
والتقط أعداء الحزبية الفرصة ليبثوا أدخنة لوثت الجدل الصحي، وحاولت إثبات صحة نظرتهم السلبية إلى الأحزاب والحزبية والديمقراطية. ولكن ما تبدى أنه انقلاب شامل على الحزبية النمطية تكشف عن ظاهرة عابرة في مسار تطور الدولة الوطنية التي تأسست على أفكار توماس هوبز، وتطورت على يد جون ستيوارت ميل؛ لتتجسد ديمقراطية ليبرالية. فقد جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية والبريطانية لتؤكد أن المطلوب تطوير الحزبية، وليس إلغاء الأحزاب؛ لأن بواعث ظاهرة المد اليميني أكثر تعقيداً من أن تختزل في انتخاب رئيس أو اثنين. فهي تتداخل مع تطورات اجتماعية، واقتصادية، ومعرفية خلقت طلباً قوياً بتمايز الفرد.
وقد فشلت القيادات السياسية والمؤسسة الحزبية عموماً في التقاط طلب التمايز، فظهر اليمين كمن يلبي الطلب باستخدام شعارات شوارعية، كالتي رددها ترامب ولوبان، وهي اهتمام بأعراض المرض؛ كمطاردة اللاجئين، ومبارزة التطرف.
ويبدو أن الجميع لم يتوقفوا طويلاً عند خطر تدفق المعلومات بصورة غير مسبوقة، مثلما لم يهتموا بانعكاسها على الفرد، والوصول إلى الجمهور، والتأثير فيه، وفي اتجاهاته. وفي الحقيقه سطوة المعلوماتية برزت مع حملة انتخاب أوباما، مروراً بالربيع العربي، فهي خلقت وعياً سياسياً تطلع فيه قطاع الشباب إلى كسر احتكار التطلع للمنصب الأول في أي دولة. وهكذا فتحت وسائط التواصل الباب واسعاً أمام بعض السياسيين الشعبويين؛ ليتماهوا مع خطاب العامة، وركوب موجته، والظهور بمظهر الحرص على تلبية المطالب الشعبية. لهذا تابعنا مبارزة في محاربة البطالة، ومكافحة التطرف الديني، وحظر دخول الأجانب، وبناء حائط مع المكسيك، ونقل السفارة الأمريكيه إلى القدس. بل وصلت المزايدة بالتبشير بمحاكاة دول غير ديمقراطية حققت معدلات نمو غير عادي كدول شرق آسيا والصين.
وفسر الذهن الشعبي كفة اليمين؛ لجرأته في الفعل الذي تقوم به الدوله الشمولية. وهكذا تنامت الظاهرة الترامبية، أو ظاهرة تهميش الأحزاب في بيئتها الغربية إلى حد الاستغناء عنها. ولهذا ليس ثمة مفارقة بأن تبرز الانتخابات الحزبية في بريطانيا صورة مغايرة؛ لأنها راسخة الأقدام، ولهذا صعدت 16 نائباً بريطانياً مسلماً للبرلمان، وهذا ما يؤكد أن المشكلة في نقص وعي الفرد، ومثله وعي مؤسسات الدولة.
ومن الوعي رد فعل المؤسسات الأمريكية على قرارات الرئيس ترامب. إذ بادرت جميع المؤسسات لمنع أسلوبه الشعبوي، ومنع تغوله على الحقوق، والالتفاف على دور القضاء أو الولايات. أما فرنسا، فإن ماكرون استطاع أن يحرك الوعي الكامن؛ ليقزم به طموحات لوبان، لهذا لم تحصد إلا 13% من الأصوات. مع ذلك (دود الخل منه وفيه) والحزبية اليوم في مرمى نيران بعضها يتطلع إلى المراجعة والتحديث، وبعض نيران من العالم الرابع تطلب إلغاء الأحزاب، وتهميش دورها من دون أن توفر البديل. وعوداً على بدء، فإن الحزب السياسي أفضل منتج إنساني، ومهما تكن التحديات فلا خيار أمام أي دولة ترغب في إدارة التنوع إلا بإصلاح الحزبية. وفي السودان بالذات لا سبيل لجمع شتات ناسه إلا بمنظمات حزبية قوية.
وتفضيل حكومة الإنقاذ لأحزاب الأنابيب، ظل حصاده مرًا، ومع أن التفاؤل في ظل النظام الحالي مخاطرة، ولكن كما يقولون: المتشائم لا يرى غير الطبلة، بينما المتفائل لا يرى إلا المفاتيح. فأرجو أن يكون الانتماء إلى العشيرة والقبيلة حافزاً يصحح التوجهات، ويحد من هيمنة الدولة على الحياة العامة؛ لنستعيد وجه العمل السياسي الذي ساد سوداننا قبل السطو المسلح الذي مارسه الإخوان في 30 يونيو 1989م.