علاقتي بالخرطوم تعود إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي، تقريباً نصف قرن من الزمان .. عاصرت فيها جزءاً من حكم النميري ثم سوار الذهب بعد الانتفاضة ثم الديمقراطية ثم عهد كابوس الإنقاذ ثم الفترة الانتقالية الحالية.
طوال هذه السنوات لم ر الخرطوم بهذه الكآبة وبأطنان النفايات في كل شارع، وكل زقاق، وتحت أي عمود كهرباء .. وبأطنان الاتربة في أرصفة كل شوارع الخرطوم ..
ماهذا المستنقع القذر الذي نعيش فيه؟ الخرطوم غرقت تماماً تحت الأوساخ والنفايات والأتربة … شيء لا يصدقه عقل إنسان.
والله أنا اضحك عندما أسمع أن الحكومة الانتقالية تقول إنها ستعقد مؤتمراً اقتصادياً في شهر مارس المقبل …اأي اقتصاد؟ وأي سياسات؟ وأي خطط التي تودون نقاشها وسط عاصمة غارقة حتى أخمص قدميها في الأوساخ والقاذورات والنفايات.. أليس فيكم رجل رشيد؟
من هو هذا الاقتصادي الذي سيبتكر لك الحلول من وسط أكوام الزبالة المنتشرة حتى أمام مجلس الوزراء؟
وأضحك أكثر عندما يقول وزير المالية إنهم ولأول مرة زادوا ميزانية الصحة بنسبة غير مسبوقة في تاريخ السودان!
أي صحة يا وزير المالية وأنا الذي بلغت منتصف الخمسينات من عمري، ولأول مرة في حياتي أصاب أنا وأبنائي في البيت بمرض التايفويد، لمجرد تناولنا لوجبة أتتنا من أحد المطاعم الشهيرة الغارقة تحت أوساخ الخرطوم !
تتحدثون عن زيادة نسبة الصرف على التعليم في الميزانية …. اين هي المدارس التي تكاد لا تتبين ملامحها خلف اطنان النفايات !!
النظام البائد كان يقوم بنظافة الشوارع الرئيسة فقط، ثم يترك الشوارع الداخلية والجانبية تئن تحت وطأة النفايات.. حتى هذه ورغم خطل الفكرة وغبائها الا أنكم فشلتم فيها أيضاً.
قبل يومين قادتني قدماي إلى شارع المطار، وسألت نفسي: ألا تستحي حكومتنا عندما تستقبل ضيوف البلاد، ويمرون بهذا الشارع المقرف؟ هل تعتقد ان هذا الضيف الذي تستقبله سيصدقك عندما تقول له إنكم تعملون لمصلحة هذا الوطن… هذا الوطن الغارق في النفايات.
وقبل عقد أي مؤتمر في هذا الوطن المنكوب، اعقدوا مؤتمراً لنظافة وتجميل عاصمة البلاد. وبدون النظافة لن ينجح أي برنامج آخر للحكومة … صدقوني .. لن ننجح في الاقتصاد، ولن ننجح في التعليم، ولن ننجح في الصحة… كل هذه البرامج مربوطة ارتباطاً وثيقاً بالنظافة أولاً وقبل كل شيء.
أرجوكم يا حكامنا دعونا قليلاً من موضوع الدولة العميقة والدولة الضحلة … النظافة لا تحتاج إلى كل هذه التبريرات الواهية … النظافة تحتاح إلى القناعة الشخصية باهميتها … ووالله بمكانس من سعف النخيل يمكننا تحويل مدينتا إلى أنظف عاصمة … فقط نحتاح إلى إرادة .
إذا كانت محصلتنا في النظافة صفراً، فإن بقية البرامج لن تكون صفراً، بل أقل من الصفر، وستكون في خانة الرقم السالب.
انقذوا الخرطوم، فإنها تغرق … تغرق.
أللهم بلغت … اللهم فاشهد