هل جاء يوم شكره؟ يتضايق كثيرون من الحديث عن المبدعين بعد موتهم، وفي تقديري أن الحديث عن المبدعين هو أمر واجب في حياتهم وفرض عين بعد مماتهم، ذلك أن الموت حدث، حدث ضخم لايضاهيه حدث، بل هو الحقيقة الوحيدة التي لاتقبل الجدل، وعلى هذا،نحكي قليلا عن فضل الله محمّد.
جئت إلى صحيفة الخرطوم عام 2000،بعد تجارب مبتورة ومريرة في عدة صحف آخرها كان بصحيفة نجوم الرياضة، وعلى قدر ماتعلمت في كل التجارب السابقة، لم أعرف الصحافة (الجد جد) إلاّعلى أعين وعقل ووجدان الأستاذ فضل الله وهو ثاني إثنين لاثالث لهما في قمة الصحافة السودانية في عصرها الحديث، مع الهرم محجوب محمد صالح، أطال الله في عمره.
الراحل الذي نعاه الناعي مساء الأحد (29 ديسمبر 2019م) قانوني ضليع وصحفي متمكّن وشاعر لامست كلماته وجدان الملايين، وله بصمة خاصة في كتابة الأغنية، رجل أخلص للكلمة المنثورة باللغة العربية الفصحى وللشعر بعامية السودان (الطاعمة)، وفي كتابة الأغاني. كان رائداً لمدرسة السهل الممتنع، وبدأ حياته نجماً متوهجاً، وجاء إلى الحياة العملية وهو شاعر يتغنى له كبار الفنانين، وأيُّ كبار هم؟
جئنا إلى صحيفة الخرطوم مشبعين بالحماس، أقول جئنا، وأعني كل الجيل الذي ساهم في صدور الخرطوم من الخرطوم بعد أن كانت تصدر من القاهرة في تجربة فريدة للصحافة السودانية. جاءت الخرطوم وفي أذهان الجميع أنها صحيفة المعارضة الأولى وكان لا بد لها من ميزان يجعلها تصدر تحت مقصات الرقيب الملتهبة في ذلك الوقت، وكان فضل الله هو الذي يجعلها تذهب للمطبعة بعد أن (يعالج) بدهاء مهني كل ما كان سوف يجعلها تحتجب (قسراً).
يشهد الجميع لرئيس تحرير صحيفة الخرطوم أن أبوابه كانت مشرعة أمام الجميع، لا يجلس أمام مكتبه حاجب، وله سعة صدر وقدرة على النقاش تتيح لأصغر متدرب أن يجادله في أمر مهني.،كان صارماً، وله مبدأ لا يحيد عنه في أن تخرج كل مواد الجريدة دون إسفاف أو تجريح أو إساءة لأحد، مما يجعل كثيراً من الموضوعات تبدو(باردة) حينما يضع مشرطه عليها، رغم ذلك فقد كان منحازاً للمعايير المهنية بمعنى أن أي مادة صحفية مستوفية للمعايير سوف تأخذ طريقها للنشر مهما كانت عواقبها.
واستفاد في عمله الصحفي من ذخيرة قانونية وتجربة حياتية فريدة . ورغم نجومية الراحل شاعراً فذًا وصحافياً كبيراً، كان زاهداً في الظهور على أجهزة الإعلام، ولا يحب أن يتحدث عن نفسه، لدرجة أنه رغم وجوده قرابة نصف قرن على منصات تشع بالأضواء لم يحفظ له العم قوقل سوى بضع (صور) لاتتوافر في معظمها معايير الجودة الفنية.
ونقدم شهادة لتاريخ الصحافة السودانية، فقد كان الراحل منحازاً بشكل واضح للثقافة والفنون، ليس لأنه شاعر، فهو لمن يعرفونه جيداً يتضايق كثيراً من التعامل معه بوصفه شاعراً، وكان زاهداً في تقديم نفسه من هذه الزاوية، لكنه كان مؤمناً بأن الفنون والمنوعات من الأبواب الشائقة والجاذبة للقرّاء.
وأفرد لنا، أنا وأستاذي الزبير سعيد مساحة واسعة في الصحيفة، بداية بصفحتي الوسط، القلب النابض، صفحتان بدون إعلان،والصفحة الأخيرة، إضافة إلى ملف اسبوعي في الفن يتكون من أربع صفحات بدون أي مساحة إعلانية، وهي ربع مساحة الصحيفة، وراهن على هذه التجربة، وصبر على شقاوتنا وحماسنا، فكسب الرهان.
كان دائما يقول لنا لا تنبهروا بأحد، فالصحفي ند للجميع، لاتعطوا من لايستحقون مساحات زائدة، وكان يكره التحيّز والشلليات والكسل المهني في العمل الصحفي، ويحفزالجميع لتوليد الأفكار الخلاقة، ولايترك فضل الله صالة التحرير دون أن يكون عليها صحافي قدي، ففي بداية الصدور بعد العودة من القاهرة، كان يدير الدفة محمد عبد السيد، ثم جاء عبد الله رزق، مع وجود فيصل محمد صالح ومحمود بابكر جعفر، وآخرين.
ومعروف عنه أنه شحيح الإشادة، لا يرضى عن العمل الصحفي مهما كان قريباً من الكمال، شعاره الدائم (في الإمكان أفضل مما كان). وفي هذا كنّا لا ننتظر منه إشادة أو تقدير، فإذا لم يعدّد لك سوءات عملك الصحفي، فأنت في السليم، أما إذا قال لك (ما بطال) فعليك أن تزغرد، لكن ليس أمامه، وأن تقيم حفلة بعد أن تغادر مكتبه..!
أما فضل الله الشاعر، فهومدرسة في كتابة الأغنية تغني له محمد الأمين بالكثير من الأغنيات أبرزها (زاد الشجون، والحب والظروف، والجريدة، وزورق الألحان، وقالوا متألم شوية، وأربع سنين ،إضافة إلى أغاني ثورة اكتوبر، وفي مقدمتها(اكتوبر واحد وعشرين) و(شهر 10 حبابو عشرة) .
وتغنّى له ابوعركي البخيت بأغنية (وعد)، التي تعرف شعبيا بالخطوبة، وأغنية (طريق الماضي)، وغنّى له الفنان الراحل عبدالعزيز محمد داود «في حب يا أخوانا أكتر من كدا».
نشأ فضل الله محمد في مدينة ودمدني التي أهداها النشيد الوطني لها، بل لكل أهل الجزيرة “..من أرض المحنة ومن قلب الجزيرة» وغنّاها الفنان الراحل محمد مسكين، وبها مقطع شهير انتشر في شكل دعابة (ولاّ أسيبا مدني وأجي اسكن حداكا).