رحم الله طيب الذكر وأسكنه الفردوس الأعلي الشاعر الإعلامي الإداري القانوني الخلوق. عاصرته زمناً طويلاً وهو رئيس لتحرير جريدة الصحافة، ثم رئيس لمجلس إدارتها، حينما دمجت الوظيفتين عوضا عن أمين الفكر والدعوة للاتحاد الاشتراكي رئيساً لمجلس الإدارة، والذي تعاقب عليه المؤرخ موسى المبارك، والأستاذ علي حامد، ثم وزير الشوؤن الدينية د. عون الشريف، والشاعر الحسين الحسين رئيس القضاء العسكري، والمفكر السياسي د منصور خالد، وتمت تسميتي سكرتيرة لمجلس الادارة، الذي ضم كوكبة من المثقفين النوابغ، مثل: البروفيسور سيداحمد البيلي، والشاعر علي المك، والسفير د حسن عابدين، والسياسي د.عمر نور الدائم، وآخرين، وكان ذلك في أوج عظمة الكلمة النافذة والتحقيق الاستقرائي الرصين.
كان المرحوم فضل الله وهو رئيس للتحرير له كلمته ووزنه متوائماً ومنسجماً ومشجعاً للصحفيات، وداعماً لانطلاقتهن ورعايتهن كالإعلامية الأستاذة الجامعية زينب أزرق، وبثينة عبدالرحمن، وعفاف بخاري تماما كرعايته للاثنى عشر كوكباً: راشد عبدالرحيم، ومحمود راجي، وإمام محمد إمام، وعلي عثمان، وفيصل محمد صالح، وتبنيه لانتقال حسن أبوعرفات من التربية والتعليم، فكان حضناً دافئاً، وموجها لكثيرين
كان يرتشف فنجان قهوته وينهي اجتماع التحرير الصباحي الذي يرسم فيه موجهات خارطة الصحيفة اليومية فالأسبوعية وفي معيته مدير التحرير الدينمو شريف طمبل، وسكرتير تحريرها نورالدين مدني، واحد أكفأ المخبرين توفيق صالح جاويش “حافي القدمين”، ومحمود بابكر عمو، وأحمد محمد الحسن الرياضي المطبوع، والحلفاوي القح مراسل الصحف اللبنانية فؤاد عباس، ومحمد مصطفى الحسن، وذكي محرر البرلمان، وغيرهم من ذلك الجيل، حيث تزاوج وانصهر ذوي الدرجات الجامعية والقدماء حاملي القلم والهم المجتمعي.
وبعد الاجتماع يدلف لمكتبنا المقابل تماماً لسكرتارية التحرير، حيث الصحفي الجريء الهمام طلحة الشفيع “ابو لسأن طويل”، وبابكر العراقي، بعد ان يجاذبهما اطراف الحديث.
وفي أحد الأيام لم أكن بطاولتي، فأخذ نوتة كان كثيراً ما يجدني منكفاة أسجل بها “خاطرة”، صباح اليوم الثاني هاتفني من مكتبه قرأتي الجريدة قلت له ليس بعد، قال: إذن أبدي بالصفحة الأخيرة وقد كان عموداً أدخلني به لبوابة الصحافة العريضة، فله بعدالله العلي القدير الفضل لدلوفي لهذه الرحابة، كنزي منها اليوم أكثر من خمسة كتب، ومقالة اسبوعية بصحيفة الشرق القطرية، ومقالات راتبة بسودانيزاونلاين وسودنايل وصحيفة التحرير والمشاهير ووووو.
كما رعى باريحية مقالي “ترانيم للوطن” بصحيفة الخرطوم حينما كانت تصدر بالقاهرة، وبطلب من د الباقر احمد عبدالله في إحدى زياراته الدوحة، وقد استمر مع انتقالها للوطن، رافقناه بكل تلك المحبة والاخوة خلال مشاركته باحد المؤتمرات بقطر، لم يكن هناك تغيير بملامحه إلا بطء قليل بحركته، ووقتها تجولنا معه بحثاً عن إصدارات علمية لابنه البكر، واستعدنا كثيراً من الذكريات، حيث كنا شخصي وأستاذنا نورالدين مدني نصل معه بسيارته الهنتر البيضاء للختمية، وكان المرحوم وقتها يقطن بديوم بحري.
كان الراحل متواضعاً ومتجرداً من الآنا، ومنصفاً حصيفاً زاوج بين دراسة القانون وعلم الإدارة وشفافية الشاعر. بفترة الحسين الحسن استلمت ضمن البريد رسالة سرية مختومة بالشمع الاحمر فضضتها، وكان هذا تقليداً متبعاً مني ومنذ انتقالي من وزارة الخارجية لوزارة الشباب والرياضة، بطلب من الدكتور المفكر منصور خالد متعه الله بالصحة والعافية، فارتجف جسدي وتصببت عرقاً، ولم يكن من مفر غير تقديمها ضمن البريد، ولم يغادر تقديري أن القرار سيكون صارماً حاسماً وربما متسلطاً، وكيف لا ورئيس مجلس الادارة الحسين كان رئيساً للقضاء العسكري، وعرف عنه أنه قليل الكلام كحالة القضاء، اإن سيكون قراره عسكرياً، فاذا وبعد أقل من ساعة كان البريد بطاولتي فقلبته بيد مرتجفة، فاذا تعليق مقتضب علي تلك الرسالة: “أستاذ فضل الله للنظر وإفادتي”.
وبنفس الوجل وتراتيبية العمل أوصلت ملف البريد للأستاذ فضل الله االذي حبس تلك الرسالة بعينها لأسبوع كنت كأنني التحف الجمر، الي أن جاء فرج الله حيث علق عليها المرحوم:”ظالم .. ظالم ..ظالم”.
فقد كلفنا فريقاً صحفياً برئاسة بابكر العراقي عمل في سرية تامة، وهذا تقريره مرفق يثبت أن ما نشره المحرر الاقتصادي حسن أبوعرفات لامس الواقع بعمق، وأصلاً لم يساورنا الشك يوماً في انجازاته ومصداقيته، وكانت الرسالة الظالمة من رئيس مجلسإادارة الأسواق الحرة برتبة عسكرية رفيعة، ويبدو أنه حسب ان العقاب سيصدر من رئيس محلس الادارة نحو الصحفي ابوعرفات، ودون تحرى الحقيقة “زيتنا في بيتنا”، ولكن خاب ظنه واكتفى الحسين بالتعليق تحفظ، وأحسب أنه لم يرد علي مصدرها إمعاناً منه في استهجان تلفيق التهم، والسعي لألجام صوت الصحافة وتكبيل الإعلام، وطمس الحقائق وتزبيفها، لصالح بعض الجالسين علي مقاعد المسوؤلية، ولكن تبقي الضمائر الحية التقية حاضرة في كل زمان ومكان.
تمت تسمية فضل الله رئيساً لمجلس الإدارة ورئيساً لتحرير الصحافة بدمج الوظيفتين، وبدايات الانتفاضة ١٩٨٥ نحو العاشرة صباحاً لوحظ ضجيج وهتافات علت اصواته، وكانت لمتطاهرين قادمين من ناحية جامعة القاهرة فرع الخرطوم، وتجمهروا بالقرب من دار الصحافة شارع علي عبداللطيف، التي كانت تضم المطابع والادارة والتحرير، وانتقل الخبر بسرعة البرق، وكان طيب الذكر بمكتبه “الشمارات” أخرجتني من مكتبي كغيري، فإذا بأحد عمال المطبعة يركض نحوي أن إقفلي باب الاستاذ، وفي ثوانٍ كان جل عمال المطبعة يحملون مجموعه من بليتات ( رقائق زنك الواح الطباعة)، وبعضهم بيده مفك او جالون أحبار حسب طبيعة عمله، والهتيفة يهتفون برأس فضل الله يقودهم احد كبار المحامين المعروفين، ووقف عمال المطابع السائقون والسعاة وبعض الصحفيين الموجودين بالدار صفًا منيعاً حائلاً دون دخول أي من المتظاهرين، وكان جلهم يحمل افرع نيم قطفوها من الشجيرات في مسارهم، ولم يقع أي احتكاك خشن واقتيد الرجل الشفيف صاحب انشودة اكتوبر الشهيرة “أكتوبر واحد وعشرين يا صحو الشعب الجبار يا لهب الثورة العملاق يا مشعل غضب الأحرار”إلى المعتقل بسجن كوبر، وانفض الموكب،وبعد يومين علي ما أذكر دخل علي صديقه الباشمهندس يوسف طه مدير المطابع، و ملامحه تنم عن قلق وحرص، وبإشارة خافتة طلب مني الدخول معه للمكتب، وطلب أن أسلمه ما بدرج الاستاذ فهمت مقصده وكنت لحظة اقتياد فضل الله أخذت كل الوثائق والمنشورات والمجلات الممنوعة من النشر التي كان يسمح لي بقرأتهاو، وأذكر من بينها وثيقة بورتسودان ١٩٧٧ المصالحة بين الامام الصادق المهدي والرئيس جعفر النميري أبو عاج، ومجلة عربية اوردت تقريراً بالصورة والقلم جاء بعنوانه “زوجة أفقر دولة تنتقي ثياب حرير باريسية”، وتقارير سرية كانت تصدر من وكالة الانباء، وهكذا ..
وكان يوسف طه ينتهز أي سانحة مثمناً تصرفي، فقد شاء القدر أن يكون بمكتبي دولاب حائط به طقم غطاء إضافي لمساند كراسي الجلوس، وكاسات شاي وماء لاجتماعات مجلس الادارة، وهو تقليد اتبعته منذ أن رجع الساعي بفنجان القهوة والماء من مكتب د منصور وزير الشباب وقتها ويقول لي: الوزير ينتظرك، فإذا به يسألني: هل رأيتي أظافره؟ فطلبت من الساعي قصقصتها، وكان التقليد ان يرتدي جلبابًا ابيض، ومن وقتها لازمني الاهتمام بكل تفاصيل المكاتب التي عملت بها عوضا ًعن الزهور ومواسمها ولهذا حديث اخر
رحم الله الرجل المناضل بالكلمة المنتقاة الشاعر بالجملة الشفيفة المتقدة حماساً لأجل الوطن، وجعل البركة في ذريته، والعزاء متصل لزوجته المكلومة وأبنائه.
عواطف عبد اللطيف
اعلامبة وناشطه اجتماعية – قطر
awatifderar1@gmail.com