نهار أمس قضينا أكثر من ثلاث ساعات مع الدكتور إبراهيم البدوي وزير المالية والاقتصاد بمكتبه.. تحدث الوزير باستفاضة عن رؤيته التي تلخصت في مخرجات موازنة العام 2020..
لم يكن الوزير راضياً من التدخل السياسي لقوى الحرية والتغيير الذي أدى لتعديل الموازنة وإرجاء رفع الدعم عن الوقود.. ورغم أن الوزير بدأ متوازناً في كلماته إلا أن حالة (وراء البسمات كتمت دموع) كانت تتستر خلف حديثه الهاديء، وقال بصورة مباشرة أن العلم والحوار المعرفي يجب أن يأتي أولاً ثم السياسة ثانياً، لكن إذا علت السياسة على العلم فهو شخصياً غير مستعد لتقبل مسؤولية ذلك.. سألته هل هذا (تلويح بالاستقالة)؟ طبعاً رد بأنه لا يقصد ذلك.. وبالضرورة إذا رد بالإيجاب فالأمر يتحول من التلويح للتصريح..
و في تقديري أن الوزير ليس بحاجة لينتظر الحوار المجتمعي ولا المؤتمر الاقتصادي فكلاهما لن يوافق على مقترحه برفع الدعم ليس لعدم الاقتناع بل للاقتناع بأن كلفة ذلك سياسياً وجماهيرياً لا يعلم حدها إلا الله..
وإذا كان السيد الوزير يرهن نجاح موازنة 2020 بالموافقة– السياسية- على مقترحاته فالأجدر أن يعول أكثر على السيناريو “ب”.
شخصياً، أعتقد أن وزير المالية الدكتور إبراهيم البدوي مواجه بتحدٍ كبير فمفردات الخطة الاقتصادية قوامها الأساسي سياسي.. حتى وإن كان منزعجاً من مثل التغول السياسي، فالوضع السياسي الراهن لم يأتِ من رحم تعديل وزاري في ظل نظام حكم مستمر، بل هو سلالة ثورة جماهيرية شعبية كاسحة لا يزال الشارع السوداني يغلي بها.. وفي مثل هذه الأوضاع يصبح مصير التحالف السياسي الحاكم معلقاً في يد الشارع.. والسبيل الوحيد المتاح هو تكبد مشاق إقناع الشارع – وليس قوى الحرية أو الحكومة – بهذه السياسات.
ولحسن الحظ، أن الشعب السوداني مستنير لأعلى درجة قادر وراغب في التفاهم والتفهم، لكن بكل أسف، أجدني متيقناً أن الحكومة يعوزها المنطق والأسلوب ومنهج إقناع الشارع.. وهنا المعضلة التي قد تكلف الوزير منصبه.
أزمة السودان ليست اقتصادية، أقسم لكم بالله العظيم على ذلك، هي أزمة سياسية بامتياز تتدثر في أثواب الاقتصاد.. لكن من يقنع الديك!! نحن في حاجة لاختصاصيين نفسيين أكثر من اقتصاديين.. لإخراج إحساس الفقر المتوهم في نفوسنا.. تماماً كما يخرج الشيخ الجن المتلبس في جسد الإنسان..
فكرة الحوار المجتمعي رائعة ، لكنها كسيحة بغير خطاب مدروس بعناية يدرك أن مفاتيح العقل الجماهيري السوداني قوية بما يكفي لاستنباط أفضل الخيارات لإدارة مستقبله كله وليس مجرد اقتصاده.
يا دكتور إبراهيم؛ شمّر عن ساعد الجد وخُضْ المعركة السياسية لتكسب الاقتصادية.. البداية كانت حكيمة بالإعلام لكنه ستكون أحكم بمزيد من التواصل الجماهيري المباشر.. تماماً مثل الدفع المباشر!!