فُطر الناس على استكناه المجهول والشغف بما يخبئه لهم. ولعل ما تخبئه الأزمنة والسنوات للبشر، هو من أهم محفزات الاحتفال بقدوم السنة الجديدة ــ إلى جانب أسباب أخرى بالطبع ــ
ولهذا، كثيراً ما ترتبط خواتيم كل سنة إلى جانب الأعياد والاحتفالات، باستضافة القنوات الفضائية بعض الذين يتكهنون للناس بما سوف تخبئه لهم السنة القادمة إن خط الزمن في حقيقته خط واحد، فليس هناك علامات فارقة بين لحظة زمنية وأخرى، لكن عقول البشر وخيالاتهم هي التي تسقط تلك الوحدات الزمنية التي ينفك بها الزمن عن كونه خطاً واحداً في عقولهم.
هكذا، تمضي السنوات وتأتي سنوات أخرى0على خط الزمن الجاري، فيما نحن كبشر نسقط على تلك الوحدات الزمنية رغباتنا وأمانينا.
والحقيقة، إن الانسان لا يعيش إلا في زمن ممتد تتجدد وحداته باستمرار. لذلك ومن خلال تلك القدرة الانسانية على تحيين وحدات الزمن يتوهم الانسان كسر تسلسه ليخترع عبر ذلك الكسر هوية خاصة للزمن.
بين سنة وأخرى نختبر ونجدد، كبشر، أمنياتنا باحثين عن أمل جديد في سنة جديدة أو متغير جديد في سنة جديدة، فيما نحن أكثر قدرة على وعي الفرق بين ما هو زمني له علاقة بحركة الطبيعة، وبين ما هو إنساني له علاقة بالتصميم والإرادة.
إن تلك الحيلة التي يستشعر بها الانسان ما يتوهمه فصلاً بين الأزمنةـ هي ذاتها التي تجعله سرعان من ينسى هواجس العام الجديد بمجرد مرور الأسبوع الأول من السنة الجديدة.
لكن، ثمة زمن آخر يشكل فارقاً لكل انسان في لحظات كثيرة من حياته، ذلك هو الزمن الي يعيشه الفرد بكثافة من الضغط العصبي الذي يرفع الأدرينالين لا إرادياً عبر مختلف المشاعر الإنسانية والعواطف المتناقضة فيها. فهنا يتبدل الشعور بوحدات الزمن في تلك اللحظات؛ عندما لا تحسب وحداتها بقياس طبيعي للزمن، بل بقياس نفسي قد تكون معه اللحظة عاماً أو العكس.
وهذا ما يمكن أن نستشعره في حالات ومواقف نفسية نتعرض لتأثير ضغوطها فنتصور بها وحدات الزمن بحسب الزمن النفسي لا الأنطولوجي.
لقد حفل الشعر والتعبير الإنساني في كل لغات البشر بنصوص إبداعية ذاخرة ومعبرة عن هوية الزمن النفسي للبشر، وهو الزمن الذي يمكن أن نعيشه أنطولوجياً بمشاعر لا يمكن أن تنسى لحظاتها حتى في الزمن العادي. فهي مشاعر تستشعر فيها النفس البشرية علاقة غير طبيعية في تفاعلاتها مع أحداث استثنائية في الحياة.
بين زمنين، يمكن أن ينعكسا في الوعي الانساني؛ زمن نفسي، وزمني أنطولوجي سنجد بوناً شاسعاً، ففيما يختبر الناس الأزمنة الأنطولوجية عبر الأرقام والمواقيت، يختبرون أزمنتهم النفسية عبر المشاعر القدرية التي لا يملكون حيالها إلا الانفعال الذي يذوب أزمنتهم الأنطولوجية ويبعثرها إلى لحظات أو إلى سنوات!
قدرة البشر على صناعة الاحساس الجماعي بالزمن لا علاقة لها بهوية الزمن الموضوعي؛ فالأعياد المستعادة لا تأخذ دلالتها من حركة الزمن الدائري في المخيال البشري لأن العيد هو ما يعود باستمرار لكن عودته تتلون و ترتبط في وعي البشر بتذكر حدث عظيم ، فيوم العيد الذي مر في العام السابق ليس هو اليوم ذاته في هذا العام، كما لن يكون ذاته في العام القادم أو الأعوام التي تليه.كل حدث عظيم واستثنائي هو بمثابة عيد لأنه سيكون حدثاً متصلاً بالذاكرة الاستعادية للبشر (مع أن الحدث غالباً ما يقع في الزمن اتفاقاً) ليحدث، بعد ذلك اليوم، فرقاً شعوريا في المستقبل.
هكذا يتدخل الانسان بصناعة الأعياد في زمن متصل فيقطع تسلسل الزمن ليستعيد احساساً جديداً به.
بطبيعة الحال، تظل الأديان هي منبع الأعياد، حتى لو انفصلت الدلالة الدينية الطقوسية للأعياد( كما هو الحال في الأزمنة الحديثة) بالرغم من ظهور الأعياد الدنيوية مع الحداثة قبل 4 قرون، كالأعياد الوطنية وغيرها.
صحيح أن رأس السنة الميلادية عيد ديني مخصوص في أصله، لكن علاقته بالحداثة من ناحية، وبالدالة الحسابية الواضحة من ناحية ثانية، جعلت من رأس السنة الميلادية عيداً للعالم تقريباً.
لكن، كما أن في كل تعميم لعيد ما (بين جميع البشر) ما يقتضي تذويباً لدلالته الدينية الأولى، نجد أنه مع انفصال الحداثة ذاتها عن المسيحية الأوربية كمرجعية، قبل 4 قرون، أصبحت امكانية تقبل عيد رأس السنة الميلادية بين جميع الأمم أمراً شبه عادي بل كذلك موعداً دنيوياً للاستئناف والتغيير والتجديد في خيارات الحياة الخاصة والعامة.
الأعياد شعور جماعي بالأزمنة الأنطولوجية للبشر، تعيد لذواكرهم تغييراً نفسياً في الاحساس باللحظات العظيمة، لكن تبقى مع الأعياد وحدة ثابتة للزمن. أما الزمن النفسي فهو احساس مختلف بوحدات الزمن. يقول الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي : ” خلال ساعتين في القطار / أعيد شريط حياتي / دقيقتين في السنة كمعدّل وسط نصف ساعة للطفولة/ نصف ساعة للسجن/ الحب، الكتب والتشرد تتقاسم البقية/ عند وصولنا أصبح في الخمسين/ ويبقى لي لأعيش قرابة ساعة”.
جريدة عمان ــ مسقط ــ الخميس 2 يناير 2020م