بعض الثوريين يفتقدون النقاء الثوري وعلى الثورة استقطاب الإسلاميين
مًبادرة الشفيع خضر مُهمّة وجوهرية لكنها تحتاج لعمل كبير
بينما الجميع مشغولون بتقطيع (تورتة) عيد ميلاد الإمام الصادق المهدي، كنتُ قد أفلحتُ في الوصول إليه، وقد جاء ليشارك الحبيب احتفال مولده ومولد كتابه (الدين والفلسفة). وبالكاد انتزعتُ منه وعداً بإجراء حوار معه، ولكن (ضاعت عليّ التورتة).
إلا أن الأسى على التورتة لم يكن كبيراً مقارنة بالتفاكُر مع المحبوب عبد السلام خاصة وأنه من الإسلاميين أصحاب الفكرة الأصيلين، ولكن لديه آراء شفافة حول مسيرة الحركة الإسلامية، مارس فيها نقد الذات بصورة غير مألوفة في الساحة السياسية.
المحبوب عاد من مهجره بعاصمة الضباب، حيث فتح التغيير نفسه للعودة حسبما قال .
حوار: هويدا حمزة
*هل فعلاً اللجنة الأمنية (خانت) البشير أم إن ما حدث كان يجب أن يحدث؟
– عندما بدأت الإنقاذ كان هامش الحريات الاجتماعية ضيقاً جداً، ثم اتسع بعد توقيع اتفاقية السلام وعودة الحركة الشعبية لتحرير السودان، وأصبح هناك هامش سياسي وثقافي واجتماعي، هذا أحدث وعياً لدى من عاصر بداية توقيع اتفاقية السلام عام 2005، وانتقل هذا الوعي بصورة مكثفة للأجيال التالية، لذلك وُصِفت الثورة بأنها ثورة وعي وثورة جيل ضد كل الأجيال الماضية، وليس مجرد ثورة سياسية، لذلك كان لابد أن تبلغ غاياتها على أي نحو. .
بالنسبة للجزء العملياتي، معروف في العلوم السياسية أن الجيش يدخل دائماً لإكمال الثورات، وقدّر الله أن تكون اللجنة الأمنية هي التي تحسم التغيير وتتولى السلطة في اللحظة الحاسمة، وفي الانتفاضة الذي حسم الأمر وتولى السلطة هو وزير دفاع نميري الفريق سوار الدهب، لذلك سماها قرنق (مايو 2)، ولم يفاوض رئيس الوزراء المنتخب إلا بوصفه رئيس حزب الأمة، فمثل هذه التحوّلات مفهومة ومعلومة، لكن الجديد في هذا الوعي هو الموقف الحاسم من الديموقراطية، والذي نجد تعبيره المحدد في أن السلطة يجب أن تكون مدنية، لذلك يجب أن نحافظ على مسألة المدنية، وكلما حدث اختلاف وحدثت خروقات تنفتح فراغات، وهذا يغري الجهة الأكثر تنظيمًا لتتدخل وتملأ الفراغ وتتولى السلطة فيما يُعرف بالانقلاب. .
*ولكن هذه ثورة وليس انقلاباً؟
– أي ثورة لابد لها من فكرة، والفكرة في الثورة السودانية صنعها الشعب (حرية ـ سلام وعدالة)، وأي ثورة لابد لها من قيادة، وهذا الجزء لم نفلح في إحكامه، فثورة ديسمبر لم تبرز قيادة واضحة، وإذا قارنا بينها وبين ثورة الخميني في إيران مثلا أو ثورة أكتوبر أو أبريل كان التجمع النقابي والحزبي مُتبلوِراً جداً وواضحاً، وكان إسمه (التجمع النقابي والحزبي)، والآن هذه اسمها (إعلان قوى الحرية والتغيير)، هذا لأن البلد اتسعت وهوامشها كلها استيقظت، لكن بقدر هذا الوعي، كان يجب أن تتبلور قيادة واضحة وقوية، البلاد التي حكمتها ديكتاتوريات لفترة طويلة ماذا حدث فيها؟ مثلاً القذافي في ليبيا عندما خرج كانت هناك دولة منهارة، لأنه حارب كل المؤسسات وركّز السلطة في يده، كذلك الحُكم لثلاثين عاماً خلخل البنى الاجتماعية التي كان يمكن أن تعود إليها الثورة لتمثل قيادة واضحة، وهذا ما نحتاجه الآن.
*هل فعلاً اختُطفَت؟ – إذن الثورة الآن بلا قيادة؟
الثورة لم تُختَطف لأنه حتى العناصر الموجودة في الحكومة الآن كانوا جزءاً أصيلاً منها، ولكن هذه القيادة ناقصة، وحتى الجهة التي أشرت إليها رؤاها ليست مكتملة، بعض الثوريين يفتقدون النقاء الثوري، يفتقدون الشفافية والتجرّد من مصالحهم الشخصية ومطامعهم والتطهّر من المؤامرات والعمل خلف الأبواب المغلقة التي لا تشبه روح الثورة، وهذا هو الأمر الذي أدى للهرجلة القائمة الآن منذ تعيين الحكومة إلى إصدار قرارات سياساتها .
*هل الحركة الإسلامية هي من جنت على المؤتمر الوطني أم الوطني هو من جنى عليها؟
كلاهما بعضهم من بعض، لكن الحركة الإسلامية هي القلب النابض للمؤتمر الوطني فهي المُتحكّمة والمُسيطرة عليه.
*يُقال إن الحركة الإسلامية هي التي افتعلت الأزمات الاقتصادية التي أطاحت بالبشير بعد أن قرّرت في اجتماع سري الغداء به قبل أن يتعشى بها؟
– في أواخر أعوام البشير لاحظنا أشياء غير طبيعية، مثلاً أزمة السيولة ثم عودتها بعد سقوط البشير، أين كانت الأموال وكيف جاءت؟
والأحداث التي رافقت الثورة والاعتصام كلها تشير إلى أنه يمكن أن يكون هنالك تدخل من عناصر محددة، ولكن عندما نتحدث عن الحركة الإسلامية بوصفها تنظيماً متماسكاً ومتآمراً على البشير ولديه قرارات، فهذا يحتاج إلى تحقيق، فمازال الوقت مبكراً لنُحدّد ماذا حدث بالضبط، لكن على أية حال أنا أرى أن كل ذلك تفاصيل في المسار الحتمي الذي كان ماضياً نحو التغيير.
*يقال إن الحركة كان تقديرها إقصاء البشير واستبداله بشخص مثل سوار الذهب، ولكن قامت الثورة التي أطاحت بالحركة نفسها.
الدكتور أمين حسن عمر قال: (تغيير المنقار فإذا امتد العمر بالصقر فالصقر يتخلص من منقاره)، مؤكد رغبتهم أن يحدث تغيير محدود، وقد تكون هناك وجاهة في هذا التقدير، لأنهم يخشون الفوضى الشاملة، وكثير منهم كانوا يتحدثون عن نظام فيه أصحاب المصلحة الحقيقية في السودان ويتشاركون جميعاً فيقوم نظام في جوهره ديموقراطي ويمهد لمستقبل ديموقراطي. هذا على مستوى الكلام والنوايا، ولكن لا ندري إذا خطتهم في التغيير محدودة، وإذا نجحت هل ستعود حليمة لحالتها القديمة لأن بناء الحركة الإسلامية نفسه غير ديمقراطي..
*كيف ترى مستقبل الحركة الإسلامية؟
– في أول الإنقاذ كان هنالك اضطراب شديد، رغم أن الحركة الإسلامية كان لها أكثر من 50 عاماً ولديها تجارب، عناصر الحركة الإسلامية (مكدرة) ، الواحد منهم يكون حضر آلاف الاجتماعات وذهبوا للخارج ودرسوا ثم حكموا في فترة النميري وأخذوا دروساً جديدة، ثم جاء عهد الديموقراطية الثالثة وأخذوا مناصب في حكومة الصادق المهدي، ثم جاءت الإنقاذ وحكموا في البداية وحدهم، وكان هنالك اضطراب شديد، لكن من الأفكار التي كانت في أول الإنقاذ مؤتمرات الحوار (السلام ـ الدبلوماسية، إقتصاد، مؤتمر المرأة ومؤتمر الإعلام)، هذه المؤتمرات أحدثت تشكيلاً كبيراً لصالح الإنقاذ، وجلبت أعداداً مهولة وملأت الفراغ السياسي الذي كان موجوداً، ـ فبعد أن عملوا الانقلاب واستلموا السلطة، حدث ما يشبه الآن ـ الثورة انتصرت واستلمنا الوزارات، ولكن ماذا نصنع بالسياسة؟ هنالك مشكلات كيف نتواجه معها؟ الحل أن تُشرِك عدداً كبيراً جداً من الناس في حل هذه المشكلات الدقيقة ويمكن الرجوع لعام 64، حيث أقاموا مؤتمر مائدة مستديرة وعملوا أمنيستي يسمى بـ(الضمانات)، لأنه أتت قيادات التمرد وجلست في الخرطوم مع المحجوب والصادق المهدي والترابي والأزهري وعبد الخالق محجوب وقيادات حركة الأنيانيا 1 وعملوا صيغة طبقت عام 73 في اتفاقية أديس أبابا مع نميري، لذلك نحن وصلنا لمرحلة (لماذا لا تكون هنالك مائدة مستديرة للميزانية والسلام، وهذا في النهاية يقودنا للمؤتمر الدستوري الذي نريد أن نرسي فيه دستور البلاد.
*مارأيك في مبادرة الشفيع خضر لتوحيد الإسلاميين؟
– الحوار مع الأخ الدكتور الشفيع يمتد منذ 10 أعوام، بدأنا حواراً على مستويات مختلفة بين إسلاميين ويسار وعلمانيين وهنالك تلخيص جيد جداً، ووجهة نظر، هنالك كثيرون يخالفونها، عبد العزيز حسين الصادق يقول إن مشكلة السودان هي مشكلة الإسلاميين والعلمانيين، مثلاً لماذا أدت نيفاشا إلى فصل الجنوب؟ لأن الإسلاميين متمسكون بالسلطة والحركة الشعبية مصرة على العلمانية، مثلاً كيف تفجّرت أزمة دارفور وكيف تفاقمت؟ هي تفجّرت في 91 مع تمرّد بولاد، ولكنها تفاقمت في 2003 وأصبحت أزمة ضخمة، هذا كله يستبطن أصحاب الصراع، هذه وجهة عبد العزيز، وهي مقدرة، ولكن هنالك وجهة نظر أخرى تخالفها، ويعتقدون أن الأزمة أزمة الشرق أو الغرب أو الهامش، هو اختار الأستاذ محجوب محمد صالح ليكون ممثلاً لهذا الاتجاه، ويختار معه من يشاء، واختار الطيب زين العابدين ليكون ممثلاً للإسلاميين، ويختار معه من يشاء ويبدأ بينهم حواراً، جزء من هذه الفكرة نُفّذ في نيروبي، وكان بنداً أساسياً في مؤتمر قضايا الدين والدولة الذي نظّمه مركز الديموقراطية للأستاذ شمس الدين ضو البيت، وهذا المؤتمر أخرج وثيقة ناجحة جداً، هذا هو الحوار الذي بدأناه منذ أن خرجنا من المؤتمر الوطني 2000، وبدأنا حواراً مع المعارضة، ثم كان هنالك تحالف الإجماع الوطني، ثم الحوارات ذات الطابع النخبوي للطبقة المستنيرة داخل الأحزاب، كل ذلك تراكم موجود كان يمكن أن يساعد على عمل تسويات لهذه المشاكل الرئيسية، مفروض أن الإسلاميين بكل فصائلهم يُستقطَبون للثورة ويُحوَّلوا لديمقراطيين ثوريين بدل أن يتحوّلوا لناقدين وناقمين وشامتين على ما يدور في ساحة الثورة، ومن ثم فدعوة الشفيع مهمة وجوهرية، لكن تحتاج لعمل في الملفات التي أشرنا إليها..
*لكن الثورة ليس لديها استعداد للتصالُح مع الإسلاميين، وأي إخفاق من جانب حكومة الثورة يُعلّق على رقبة الدولة العميقة؟
– في البداية، ومع الذكريات الحاضرة للثوريين ستكون هنالك حساسية كبيرة من النظام القديم، ولكن الإسلاميين فئات وليسوا كلهم سواء، يجب ألا يعمدوا للتعميم المخل، فليست هناك قبيلة كلها فاسدة أو متآمرة، ولكن بعد أن تهدأ الأحوال لابد أن يدور حوار ليس على مستوى الأشخاص بل على مستوى الأفكار، فكرة العلمانية مثلاً كثير من السودانيين يشوشون إذا طرحت عليهم فكرة فصل الدين عن الدولة/ ولكن كثير من الإسلاميين يفهمون أنه ليس المقصود بها العلمانية الغليظة التي تفصل الدين عن الدولة، وإنما المساواة أمام القانون كما جاء قي حديث الرئيس التركي قبل أيام، أما الدولة العميقة فشيء مختلف، وأفضل من يفككها هم الإسلاميون، لأنهم يملكون المعلومة.
*مليونية الزحف الأخضر فتحت نفس الإسلاميين للسلطة، فهل تتوقع أن يعودوا فعلا بانتخابات أو غيرها؟
– الإسلاميون يجب أن يفهموا الحاضر ويصبحوا جزءاً من المستقبل بدلاً من العودة لآثار الماضي، مسيرة الزحف الأخضر لم تعلن الجهة التي نظّمتها عن نفسها، فأي مسيرة لابد من جهة تتبناها، ولكن لم نعرف الجهة التي نظمت المسيرة ولا أهدافها ولا شعاراتها، هناك شعارات تعود لحل الحزب الشيوعي سنة 68 ، وهنالك شعارات تعود لأول نشأة الحركة الإسلامية، وأيضا شعارات سلفية، لذلك نريد من الإسلاميين أن يَتَبلوَروا في كيان جديد يشبه الحاضر ويتجه إلى المستقبل.
*كأنك زعلان من الإسلاميين.
-أنا من أكثر الناس أصالة إذا أردنا أن نتحدث عن الإسلاميين، ومن أكثرهم عمقاً ومعرفة بأسرارها وفكرتها وبرنامجها،هنالك كثيرون أخذوا أدواراً كبيرة، ولكنهم لم يكونوا يعرفون برنامج الحركة الإسلامية وبينهم شباب ورتب عسكرية، وكانوا يسيرون مع السائرين، أنا شخص انتميتُ إلى الحركة بإخلاص لفترة طويلة، وانتهيت إلى خلاصات أهمها أن الفكرة التي بدأها البنا 1928 وجدّدها الترابي استنفدَت أغراضها ولابد من فكرة جديدة على مستوى العالم.
*علي الحاج قال: هناك ثلاثة أسرار أحدها لا يعلمه غيري والبشير والترابي، والثاني لا يعلمه غيري والترابي، والأخير لا يعلمه غيري، هل كان صادقاً أم أنه يرمي للإثارة فقط؟
– أي واحد منا لديه نفس الحالة، وهنالك أسرار لا يعرفها غيري والترابي والبشير، وأخرى لا يعرفها غيري والترابي وثالثة لا يعرفها غيري، وبالتالي هذه عبارة عادية، ويجب ألا نتعامل معها بحساسية، خاصة وأن علي الحاج تبوأ مواقع حساسة جداً، لذلك من حقه أن يقول هذه الكلمة، ولكن ما المفيد فيها إذا لم يُطلعنا على العبرة التي يمكن أن نأخذها من هذه الأسرار؟
*هل يمكنك أن تُفصح لنا عن الأسرار بطرفك؟
-أنا أختلف عن الآخرين لأني أكتب وأتحدث كثيراً، ففكرة السر لم تعد لدي منذ سنة 2000 لم يَعُد هنالك سر، منذ أن خُرق دستورالبلاد وخُرق قَسَم الحركة الإسلامية لم يعد هنالك سر نأتمن عليه بعضنا بعضاً..
*أنتم كمؤتمر شعبي حتى إذا أيدتم التغيير فأنتم بالنسبة للثورة جزء من النظام السابق؟
– أنا لا أنتمي للشعبي، أنا من بين مؤسسي حركة تضامن للديموقراطية والعدالة الاجتماعية التي تأسست يوم 1 مايو 2019.
*ولكنك تظل إسلامياً حتى لو أنكرت نسبك للشعبي؟
-فارقنا النظام 2000 وكثير من الموجودين في الحراك الآن فارقوه سنة 2010.
حوار نشرته صحيفة (الصيحة)
المحبوب عبد السلام