بلادنا تخرج للتو من حضيض الانقاذ ، و شعبنا مليء بالأمل في الغد ، و لكن الأمل وحده لا يكفي ، بل يحتاج عملا مضنيا معه ، و لنكن واقعيين ، الدول لتكون في مصاف العظمة لا تنهض في سنتين او ثلاث بل تنهض بالتدريج على مدى لا يقل عن ٥٠ سنة من العمل و الأمل .
هل ثمة دولة نهضت من الحضيض إلى القمة في ظرف وجيز ؟ هل ثمة نموذج يشبهنا و قابل للتطبيق؟ ، دعونا نرى هذا النموذج ، في مذكراته قال زعيم سنغافورة لي كوان يو
بعد الاستقلال عن ماليزيا عام ١٩٦٥ كنا دولة بلا موارد طبيعية ، كنا دولة تعج بالبطالة و الفقر و الفساد و الركود الاقتصادي .
خلال ٥٠ سنة فقط من هذا القول اصبحت سنغافورة خامس أغنى دولة في العالم ، و من أعظم مراكز المال العالمية، لقد تحولت بصورة مدهشة من بلد فقير محطم إلى بلد تشرئب لتجربته الأعناق .
نحن اليوم نشبه سنغافورة عام ١٩٦٥ ، لقد حققنا للتو استقلالنا من هيمنة الكيزان ، و خرجنا من حكمهم بدولة تعج بالبطالة و الفقر و الفساد . و لكننا و على العكس من سنغافورة تزخر بلادنا بالموارد الطبيعية من أرض خصبة و مياه عذبة و معادن و بترول و مناخ متعدد و ثروة حيوانية و سمكية و غابات و الخ.
كان السر في نهضة سنغافورة هو الاستثمار في البشر ، اجتهدت سنغافورة في التعليم و خاصة التعليم التقني ، و اهتمت بتدريب شبابها في الخارج ليكونوا مؤهلين للوظائف ذات الدخول العالية و الوظائف الحيوية في الدولة . فهل نستفيد من هذه التجربة؟
بلادنا تمتلك رصيدا ضخما من الشباب ، قرابة ٦٠% من سكان السودان تقل أعمارهم عن ٢٦ سنة ، الاستثمار في هذا الرصيد الشبابي الضخم بالتأهيل العلمي المدروس و خاصة تقنيا ، و ابتعاث أعداد مقدرة من شباب الثورة ( ابتعاث مدفوع التكاليف من قبل الدولة ) في قبل الأرض الأربعة ليتدربوا في الوظائف المهمة كما في مجال الإلكترونيات و التقانات المتعلقة بالزراعة و الثروة الحيوانية و المياه و المعادن الخ ، مما يوفر خلال سنوات قليلة رصيد بشري هائل مؤهل سيقود نهضة البلد .
من المهم ذكر حقيقة ان نسبة الرجال الشباب إلى النساء الشباب في بلادنا متساوية ٥٠% الى ٥٠% ، هذا المزيج المتساوي من النوع يلبي تطلعات النهضة و بناء الأمة بهدوء .
عكس سنغافورة بلادنا تعاني من آثار الحرب ، إيقاف الحرب مدخلنا للنهضة ، لا نهوض بلا سلام ، لا تنمية بلا استقرار ، لا إنتاج بلا أمان . بلادنا في ظل الانقاذ عانت من الحرب و من النزوح الداخلي ، نحن من أكبر الدول التي نزح فيها سكانها داخليا ، يوجد أكثر من اثنين مليون نازح و لاجيء من أثر النزاعات في دارفور و جبال النوبة و النيل الأزرق ، هذا غير النزوح من الريف إلى المدنية و الذي بلغ خمسة أضعاف المعدل الطبيعي نحو الخرطوم العاصمة فقط ، كما يوجد ما لا يقل عن نصف مليون نازح في بلادنا من دول الجوار .
علاج مشكلة النزوح الناتج عن النزاعات يتم باحلال السلام .
إحلال السلام سوف يوفر ميزانية الحرب التي كانت تستهلك قرابة ٧٠% من الميزانية العامة في عهد الانقاذ الكالح .
توجيه نصف هذه الميزانية الضخمة نحو الاهتمام بالريف بدعم الزراعة و الثروة الحيوانية و توفير الماء الصحي و الكهرباء و الطرق و المدارس و المستشفيات ، سوف يساهم في عودة عكسية للنازحين من المدن إلى الريف، و سوف تساهم هذه العودة في توفير الأيادي العاملة المطلوبة للإنتاج ليرتفع الدخل القومي .
في مذكراته ايضا كتب لي كوان يو ما يلي عن ما فعلوه بعد تحقيق الاستقلال ( كنا مصممين أن نطرق الحديد وهو ساخن ، وأن نستفيد من شعبيتنا بعد الانتخابات ، فقمنا بحملات واسعة لتنظيف الشوارع، واقتلاع الأماكن القذرة ، وكنا نحض الجميع حتى الوزراء على أن يعملوا بأيديهم، حتى ولو اتسخت ملابسهم، وذلك من أجل خدمة الشعب ، بنينا عشرات المراكز الاجتماعية الكبيرة فى المدن وأخرى صغيرة فى المناطق الريفية، وأماكن للتعليم وإعادة إحياء المواهب، كنا نريد أن نقدم للناس أشياء إيجابية نقوم بها ضمن إطار النظام العام والقانون ) .
الا تبدو هذه الجزئية الأخيرة من مذكرات رجل نهض بسنغافورة من الحضيض الى النعيم ، الا تبدو روشتة مناسبة لنرسلها إلى قوى إعلان الحرية و التغيير و تجمع المهنيين ليستفيدوا من شعبيتهم الراهنة ؟!
sondy25@gmail.com