يصعب الكلام في رثاء حبيبنا سيد بشير أبو جيب، فمثله لا توجد الكلمات التي تعطيه حقه ومستحقه.. وعزانا أنه رحل وفي عينيه دمعة فرح بإنتصار ثورة شعبنا وبزوغ فجر الخلاص الذي كان ينتظره بلهفة وقدم في سبيله بلا من ولا أذى!!!
إن فقد سيد جلل ليس على حزب الأمة القومي وكيان الأنصار وإنما للسودان بأجمعه،، فقد قدم للأجيال إرثاً معرفياً قوامه التنقيب والتعبير الصادق عن ما بداخله من فكر وإحساس نبيل.. وإرثاً معنوياً قوامه نقاء السيرة والسريرة والمحبة في الله والأخوة في الوطن.. فهو نموذجاً للبذل والعطاء والإلتزام الي جانب الحقيقة والتمسك مشارع الحق..
كان سيد مشغولاً بأهل السودان والتنظيم الحزبي والمصير الوطني.. فتولى رئاسة اللجنة الاعلامية بالمكتب السياسي خلفاً للمرحوم حبيبنا عبد الحميد الفضل والوطن مثقل بالألام والأوجاع من قبضة الطغيان والإستبداد.. فكانت بياناته وتصريحاته وتعبيراته تعكس عقل وإحساس كافة أعضاء المكتب السياسي بتجرد وحصافة ودراية ومسئولية.. وعندما تؤلى منصب رئيس دائرة التنظيم بالأمانة العامة للحزب تحت إلحاح وضغط الحبيبة المناضلة سارة نقد الله كان رده: (إنها مسئولية كبيرة يا بنت الأمراء ولكنني من يدك دي لي يدك دي.. لن أتخلف عن الواجب)، وكانت سارة هي الأخرى تقول عنه: (سيد أنا عارفاه كويس).. كيف لا وهي التي أسندت اليه رئاسة اللجنة الدائمة لدرء الكوارث والأزمات فكان قدر التحدى والثقة والمهمة، فطأف ولايات كردفان والشرق والوسط مقدماً الموأساة والعون والتضامن.. كما تولى في مسيرته رئاسة العديد من اللجان التي تتطلب تفكير وتنفيذ ومتابعة في آن واحد، فشكل إضافة بهمته وقدرته على الإدارة والتنظيم والترتيب والتدقيق،، كيف لا وهو رجل القول والفعل معاً.. رجل المهمات الصعبة.. رجل أبعد ما يكون عن كوابيس اليأس والإحباط.. رجل لم ينحني لحظة في وجه الرياح العاتية.. رجل لم يتعب ولم يتسلل الي دواخله الملل والخنوع.. رجل عنوانه البذل الصخي ونكران الذات وحب الوطن .. وملامحه البساطة والبشاشة والتواضع الجم..
ساهم سيد بفكره في كتابة العديد من أوراق العمل والدراسات حول التراث الكردفاني، وتجارة الأبل، والإقتصاد، والعلاقات التجارية بين مصر والسودان، ومستقبل السلام في السودان، وعن تاريخ المهدية، ولديه بعض الكتابات باللغة الإنجليزية في مجلات أجنبية.. وكان حافظاً لأشعار البادية وقصصها ونوادرها وظلت حاضرة في مؤانسته.. وقد شارك في عدد من المؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية..
عُرف سيد بحب وطنه الذي شكل وجدانه.. وتلمس فيه روح الإنتماء للإنسان السوداني البسيط والعفيف اليد واللسان وأخلاق السمتة السودانية.. يعلو عنده الوطن فوق كل إنتماء أخر.. أذكر جيداً كيف أنه كان مهموماً بقضية سواقي بارا.. ومتابعاً لها عن قرب.. ومتواصلاً.. ومساهماً بماله وفكره وعلاقاته.. ومنزعجاً جداً للظلم الذي وقع علي الأهالي.. وذات مرة ونحن نتابع مجريات هذا الملف.. قال لي: ( معليش شغلتك معاي .. أنا مهموم بهذا الملف لسببين الأول لأنه قضية عادلة تحتاج المناصرة والثاني أخشنى أن تشغلني قضايا وطني الكبير من هموم أهلي وقضايا وطني الصغير).. ونحن نشهد أنك قد أوفيت الأمانة وحملت هموم وطنك الكبير والصغير بقوة..
جُبل سيد على الوفاء لتاريخ والده وأسرته، والادوار الوطنية والمجتمعية المشهودة، والتمسك بذات العادات النبيلة التي تربى عليها من كرم ونجدة وعطاء وتواصل إجتماعي في السراء والضراء،، تشهد ذلك في تعامله اليومي في مكتبه وبيته،، وفي ترحاله المتواصل ذهاباً وإياباً من والي كردفان وكل البقاع.
حّب سيد إمامه الصادق المهدي وبالغ في حبه.. ورتع من معينه فكراً وسياسةً وأدباً وثقافةً وتجربةً إنسانية.. فمال اليه بقلبه وعقله معاً.. وكان دائماً ما يعبر عنه هذا الحب قولاً وفعلاً.. كما حّب أنصار الله فبادلوه حباً بحب ووفاءاً بوفاء..
ظل سيد شعلة من النشاط والحكمة والتفاني والتجرد.. يحمل رسالة وفكرة وإحساس متقد كأنه يسابق في الزمن ليكمل ما عليه قبل أن توافيه المنية، وكأن نيتشة يقصده بمقولته الخالدة (كان رقيقاً ولطيفاً وعليلاً مثل كائناً مهياً ليكون عابراً لا أكثر! مجرد ذكرى لطيفة عن الحياة أكثر منه الحياة نفسها)..
عاش سيد نقياً وورعاً تتجسد فيه معاني الزهد والطهر والعرفان والإخلاص والتقوى، فتمثلت فيه أبيات عبد الله بن المبارك:
ياعابدَ الحرمينِ لوْ أبصرتناَ لَعَلِمتَ أنَّك فَي العِبَادَة ِ تَلْعَبُ
من كان يخضِبُ خدّه بدموعِه فنُحورُنا بدمائِنا تَتَخَضَّبُ
أوْ كانَ يُتعبُ خيلهُ في باطلِ فخيولُنا يومَ الصبيحة ِ تَتعبُ
ريحُ العَبِيرِ لَكُمْ وَنَحنُ عَبِيرُنَا رهجُ السنابِكِ والغبارُ الأطيبُ
ولقدْ أتانَا منْ مقالِ نَبينَا قَولٌ صَحِيحٌ صَادِقٌ لا يَكْذِبُ
لا يَستَوي غُبَارُ خَيِل الله فِي أنْفِ امرِىء وَدُخَانُ نَارٍ تَلْهَبُ
هَذَا كَتَابُ الله يَنْطِق بَيْنَنَاـ لَيْسَ الشَّهِيدُ بِمَيِّتٍ ـ لاَ يَكْذبُ
رحل سيد أبو جيب عن هذه الدنيا رافع الرأس كتبلدية تعانق السماء شموخاً وتظلل المتعبين عطفاً،، رحل ولم يحمل معه الا حب هذا الوطن الذي نذر نفسه مناضلاً في رحابه.. رحل في هدوء وصمت وهو يضع بصمته كاملة في دفاتر العطاء والحضور الأبدي..
سيكتب التاريخ بأنك كنت رمزاً لنكران الذات وحب الوطن..
في رحاب الله.. يا عاشق الكيان والوطن..
يا علماً خفاقاً في الولاء والوفاء..
يا عوناً للضحايا والبسطاء أبناء شعبي الطيبين..
لك الرحمة والمغفرة حبيبنا سيد..
(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)..