منذ رحيله في ذاك السبت الحزين، وأنا أبحث عن ذاتي، ويحجبني وجعي.. أبحث عن حروفي وتصد عني.. من يومها والكلمات تتمنع، ولها ألف حق.. فأي كلمات تستطيع رثاء أبي آمنة، وأي قول يوفيه ما يستحق.
أذكر في ذاك اليوم، وقبل أكثر من سنتين ونصف جاءني يعزيني في شقيقتي تهاني عليها رحمة الله، ويصبرني ويواسيني، وكان كعادته يفيض حنية ومودة وخوة ومحبة، وبعد أن أفاض على عبارات التعازي والدعاء للراحلة المقيمة، وقبل أن يغادر داري سألته عن سبب شحوب، وجهه فرمى إلى خبر مرضه بهدوء وثبات ما رأيته في حياتي.
ومعروف أن السرطان مرض مخيف يبث الرعب في نفس المصاب وأهله ومعارفه، لكن محمد أحمد مصطفى كان كعادته فارساً لايجزع، ولا يشكون ولا يزعج أحبابه لا بهمومه ولا بأوجاعه، وهو الذي كان يتفقد أخبارنا وحال أولادنا وأمهاتنا وآبائنا وأهلينا، وهو في قمة الوجع، بل حتى أيامه الأخيرة والمرض يفترسه من كل جانب حتى لايكاد يقوى على الوقوف، كان يسالمنا ويكالمنا ويتفقد أحوالنا.
كما قال أخي ورفيق دربه محمد صديق في رثائه الصادق كان أبو آمنه يبادرنا بعبارة “كيف عقبك .. علهم طيبين”، يستهل بها كل محادثة تلفونية أو لقاء وسمر … يحيطك بالسؤال عنك وعن حالك وأحوالك وأهلك، كأنه لا يحمل في الدنيا إلا همك أنت وحدك، وهذا حاله مع كل أحبابه وما أكثرهم.
كان الموت يسارع خطاه نحو أبي غد، وكنا نحن نتحطم من دواخلنا، بينما هو راكز وثابت ثبات جده ودحبوبة أمام المشنقة … فيا له من صبور ويا له من مؤمن سلم أمره لخالقه، ورضي بالبلاء ولم يجزع .. بل جزعنا نحن وصار الناس حوله يتبارون في الآراء والخيارات، ويدفعونه دفعاً للسفر والعلاج حتى طاف مصر والسعودية والسودان ووصل حتى الهند برغبة أحبابه وإصرارهم علهم يجدون جرعة تغرس العافية في بدنه النحيل … طاف المشافي وقابل الأطباء، وأرضى أحبابه، وانتظر رحمة ربه… ولكن الله أراد أن يختاره لجواره وقضاء الله هو النافذ وإرادته فوق كل إرادة.
عرفت أبوغادة منذ أواخر العام 95 ونحن زوار الرياض مرافقين لبعثة معشوقه الهلال، ومن يومها وأشهد الله، ظل أخي وصديقي وحبيبي … من يومها وهو من أنبل من عرفت، ومن أحن الناس وأجملهم وأروعهم وأطيبهم.. ما اسمعني ما يشينني ولا أراني ما أكره، وهذا حاله مع أهله ومعارفه وكل ما أقوله عنه يمكن ان يقوله منعم عمر أو عثمان قرافي أو محمد سلمان أو طارق عثمان أو تجاني محمود أو سعد العبيد أو أحمد ميسي أو أخواله وأعمامه وأبناء الحلاوين جميعاً.
كان محمد أحمد مصطفى هلالياً فريداً، لم أر درويشاً يشابهه في حب الهلال ويفوقه انتماءً إلا الزعيم الطيب عبد الله، كان يعشق الهلال على طريقته الخاصة، ولهذا كان أحد مؤسسي رابطة الهلال في الرياض. ومن حبه للهلال أحبنا وأكرم وفادتنا، وترك لنا مساحة في قلبه الأبيض … ويوم أسس فريق ودحبوبة في رابطة الصالحية أشفقت على هلالية العاشق المتيم، لكنه بنقاء صوفي فريد أسكن أسرة ودحبوبة في مكان آمن بين ضلوعه، ومارس أعظم حالات الحب والوجد لهلاله ولفريقه … وكنت كثيراً ما أراقبه ويدهشني يوم يلعب الهلال أو يقابل ود حبوبة فريقاً في مباراة كأس، فاستمتع بمتابعته وهو في حالة وجد صوفي ودروشة تامة يزازي بين ضفتي قلبه يرقص كالطفل إن فاز الأزرق أو الأزرق ويقوقي وينوح إن خسر.
والله يا أحباب كلما أكتب سطراً أجد نفسي مبعثر الكلمات مشتت العبارات، فالكتابة تصعب في حضرة أبي آمنه حياً وميتاً، فأبو حنين سفر من الإخاء، ونيل من العطاء، وفيض من المعزة، وبحر من الجود، أبو أمنه هزم ثبات الرجال وغياب أثكل ذوات الخدور، أبو آمنه أب بكته آمنه ورحيم فقدته غد، وظل استجارت به غادة، ودفءُ فارق حنين، أبو آمنه زوج هجر الحياة، وترك هاجر تعيش غربة بلا ميعاد ووحشة بلا رجاء …أبو آمنه وجع يتمدد وحزن يتجدد وأسى بالغ وفراق يطول…أبو آمنه حبيب سافر، ورفيق غادر، وخل وفي ووفاء نادر.
جملة أخيرة:
ليس عندي بعد، غير رجائي وعشمي في رب رحيم يبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأن يعظم أجره ويوسع مرقده ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يعوضه عن كل ساعة وجع نعيماً لا ينقطع وعن كل دقيقة ألم رحمة ومغفرة، وأن يرزق محمد أحمد مصطفى صحبة الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه… وأرجو أن نكون من الذين إذا أصابتهم مصيبة ذكروا الله وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون.