حتى تعلم الأجيال أن السودان مزقته سياسة الكراهية (العنصرية) … والديكتاتورية والظلم …
بكل المقاييس هذا الحدث يجب أن يكون في صدارة كل الأخبار.. فالذي امتشق السلاح وأقسم بالله ليصلين في مسجد كاودا ذهب مع الريح ودخلها من ليس في يده إلا إرادة وعزم الشعب أن يسترد كرامته وحريته كاملة غير منقوصة..
ليلة اندلاع الحرب في النيل الأزرق، ومع اللحظات الأولى للحريق اتصلت هاتفياً بالأستاذ مالك عقار، بعد مغادرته عاصمة ولايته “الدمازين” إلى مدينة الكرمك.. دهشت للغاية حينما علمت منه أن تفاجأ تماماً بالهجوم المباغت عليه.. وأكد لي أنه لم يكن في نيته ولا تخطيطه شن حرب على الحكومة أو التمرد عليها.. بل كان يمارس عمله والياً للولاية إلى لحظة إعلان الحرب..
بصورة قريبة الشبه، كان الوضع في ولاية كردفان، الأستاذ عبد العزيز الحلو كان نائباً للوالي وخاض غمار الانتخابات ضد الوالي.. وكان هناك حديث كثيف واتهامات بالعبث في الانتخابات ونتيجتها.. وهو أمر مهما كان سيئاً فلا أسوأ منه إلا الحرب.. وقد كان.. إندلعت النيران ولا تزال الحرب لم تضع أوزارها في الأقاليم الثلاثة..
ومع كل هذا الوضع القاتم، و في لحظة تاريخية فارقة ومفاجئة توصل طرفا حرب النيل الأزرق إلى اتفاق بأديس أبابا أطلق عليه إعلامياً (اتفاق نافع-عقار) إشارة إلى رأسي وفدي التفاوض من الحركة الشعبية بقيادة عقار والمؤتمر الوطني بقيادة نافع حينها.. وكان من الممكن أن يتوقف الحريق هنا وتفتح صفحة جديدة، ولكن عاد الرئيس المخلوع من زيارة الصين وأعلن من منبر مسجد النور نقض الاتفاق.. واستمرار الحرب.. وكأني بها مباراة في كرة القدم أو حتى الملاكمة وليس قتالا يدفع ثمنه الأبرياء لا الأشقياء.. يوميات الحروب الثلاثة في دارفور، وكردفان، والنيل الأزرق تشهد للتاريخ أن ولائم الحروب تذبح قرابينها لأتفه الأسباب.. بل النزوات..
الآن، ثبت تماماً أن السلاح والقتل والدمار لا يبني مجداً ولا بلداً، ولا يحقق هدفاً ولا نصراً طالما أن الطرفين من نسيج الأمة ذاتها.. فيكون عبرة للتاريخ أن لا يدخل “كاودا” من نذر لها الدماء، وتستقبله بأحضان الحب والتقدير من نثر لها الورود.. فيذهب المخلوع إلى “كوبر”، و يسافر حمدوك إلى “كاودا”..
حان الوقت لتوثيق التاريخ بكل دقة، خاصة الحروب الأهلية التي ولغت في دماء السودانيين وشردتهم وعطلت الحياة في أقاليم واسعة لسنوات طويلة.. حتى تعلم الأجيال أن السودان مزقته سياسة الكراهية.. والديكتاتورية والظلم..
بكل يقين وصول حمدوك إلى “كاودا” صفحة جديدة في تاريخ السودان الحديث..
شكراً عبد العزيز الحلو.. شكراً حمدوك!!