بسمِ اللّٰهِ الرَّحمـٰن الرَّحِيمْ
• مبادئ ثورة ديسمبر للتغيير وليست للتفاخر.
• لم يكن ميثاق قحت ميثاقاً لحزب، بل دليلُ ثورة.
• التمكين مرفوض وإن كان بالشرعية الثورية.
المشهد الأول:
كتبت إحدى الناشطات على تويتر تحكي معاناتها عندما أرادت أن تحافظ على حقها، وتدفع تعريفة المواصلات دون زيادة.. ولكنها تعرضت للإساءة من الكمساري أمام مرأى ومسمع ركاب الحافلة الذين غشيهم الصمت وتقبلوا تلك الزيادة دون أي ردّة فعل تذكر.
وعندما نزلت الناشطة عن الحافلة كان نصيبها الشتم (لفظاً بذيئاً مصحوباً بإشاراتٍ نابئة) من الكمساري، لا لشئٍ سوىٰ أنها طالبت بحقها، ومضت الحافلة بركابها في صمتهم المخجل وعدم مبالاتهم بمبادئ الثورة أو بأبسط درجات النخوة السودانية المتأصِّلة فينا.
المشهد الثاني:
هذا الأسبوع كنت بالميناء البري في الخرطوم وسط فوضى تكاد تهِدرُ أبسط حقوقنا في استنشاق الهواء النقي، فالسماسرة يسيطرون على الميناء دون خوف من رقيب أو حسيب، ومكاتب الحافلات تشاركهم الإثم من أجل الكسب الرخيص، عطالة مقنّعة تتكسَّب من عرق المواطنين وحاجاتهم، وتستنزف مواردهم دون رحمة.
تحصلت على التذاكر من السوق السوداء إشفاقاً بحال أطفالي وعندما ذهبت الى الحافلة تفأجات بمطالبتي دفع مبلغ ألف جنيه أخرى أجرة نقل لحقائبي.. هكذا دون حياء ودون مراعاة لعدد التذاكر التي اشتريتها، وعندما اعترضت كان نصيب حقائبي العودة للأرض مرّة أخرى، (ما كان أكثر إيلاماً في الأمر، أنني عندما تحدثت الى وكيل الشركة محتجاً ومطالباً بإيصال رسمي لهذه الرسوم الإضافية، اعتذر معلِّلاً ذلك بعدم وجود ايصالات للشحن) عندها انفعلت ووصفت ذلك الفعل القبيح بأفعال زبانية الدولة البائدة (الكيزان)، فما كان من الرجل إلاَّ وأن احتضنني قائلاً في سرور.. “إنت زولنا، وانا ذاتي لجان مقاومة” ثم اخرج لي وسط دهشتي بطاقة صفراء تحمل إسم لجان المقاومة.
المشهد الثالث:
حدثني بحسرة من أثق بصدقهم بأن شباب صغار من لجان المقاومة وقحت “والناس لا زالت تخلط بينهما” أن هؤلاء الشباب يتعاملون بأسلوب حاد ومنفِّر، يفتقر الى أبسط مقومات الإحترام للآخر، وهذا الآخر ربما كان مُسنّاً من جيل آبائهم، كل ذلك تحت شعار الشرعية الثورية التي تعمل بها تلك اللجان دون توجيه ووضع أسس تتم وفقها مراعاة عادات مجتمعنا وتقاليده.
الشاهد
إن مبادئ ثورة ديسمبر المجيدة لن تحيا دون قدوة قادرة على أن تسعى بين الناس دون تفضُّلٍ أو تعالٍ، تنشر بينهم هذه القيم السامية فعلاً لا قولاً، فميثاق قوى الحرية والتغيير لم يكن ميثاقاً لحزب، بل هو دليلٌ لثورةٍ أنتجت وعياً عالياً أعاد لنا الكثير من القيم التي بدّدتها عقود الإنقاذ الثلاثة.
فقد كان اعتصام القيادة العامة هو المُولِّد الذي أنتج لنا مرة أخرى تلك القيم المُهدرة واستعادها من جديد لتبُث الطاقة الإيجابية في المجتمع، والشئ الطبيعي هو أن تعمل قوى الثورة بذات التكاتف والتوافق لتسود تلك القيم في مجتمعنا فتترسّخ بدورها مبادئ ثورة ديسمبر المجيدة وتعلو وتعُم، فهي مبادئ للتغيير وليست للتفاخر.
ولكن للأسف بعد نجاح الثورة انشغلت تلك القوى بقضايا الحكم ودخلت في تفاصيله العليا ومناطحة طواحين الهواء من قوى الردة والرجعية ولم تعطي من وقتها لبناء مؤسسات الحكم والدعم بتفاصيلها الصغرى وخطوطها العريضة والتي تمثل القاعدة الأساسية الداعمة للثورة والحكومة الإنتقالية على حد السواء.
كانت لجان المقاومة ولا زالت تمثّل روح الثورة وشريان حياتها، اختطّت تلك اللجان أهدافها المرحلية إبان النضال الثوري وقادته حتى تحقق النصر المبين، وبعد نجاح الثورة كان على قحت أن تولي تلك القواعد أهمية خاصة في إعادة صياغتها وصياغة أهدافها بوضوح لتعبر بها إلى مرحلة ما بعد نجاح الثورة والإستفادة من تلك الكوادر الشابة في حراسة ثورتها وتحقيق أهدافها وخلق قيادات جديدة ومستقبلية للمجتمع.
ولكن للأسف لم تكن تلك الرؤية من أولويات قحت وتركت اللجان للخبرة الذاتية القليلة المكتسبة خلال النضال الثوري، وتباينت مفاهيم عضوية تلك اللجان ما بين من يسعون في المجال الخدمي لأحيائهم ومناطقهم وما بين من يحملون دروع حماية الشرعية الثورية يستأصلون ويُقصون بها كل من ظنوا فيه إنتماءً للعهد البائد مستخدمين ذات فهم الحركة الإسلامية في عهد التمكين، متناسين شعار الثورة المرفوع في تحقيق الحريّة والسلام والعدالة للجميع.
إن التمكين مرفوض وإن كان تحت غطاء الشرعية الثورية، وإن عاملنا عضوية النظام البائد بذات فهمهم وأقصيناهم من كل شئ فنحن إذن مثلهم ولا نختلف عنهم في شئ.. بل الواجب في ظلِّ ثورةٍ دعت للحريَّةِ والسلامِ والعدالة أن يسود فيها حكم القانون، وأن يُدان المُخطئ إن كان من المؤتمر الوطني المحلول أو غيره، فالفساد لم يكن فيهم فقط، كما لم يكونوا جميعهم فاسدون، لهذا فالإحتكام إلى الجهات العدلية هو الفيصل، وليس الأمر شعارات نسوق بها الناس دون وعي مثلما كانت تفعل حكومة الإنقاذ.
في الختام انا لا أحمّل الخطأ كليّاً للجان المقاومة، فلهم الشكر على جهودهم المقدرّة، حيث يعملون في حدود طاقاتهم وقدراتهم وخبراتهم المكتسبة دون دعم من الأحزاب والقوىٰ الوطنية الأخرى مما يعرض تلك اللجان للإختراقات من قوىٰ رجعية أو عضوية زائدة الحماس والإنفعال تؤذي الآخرين باسم الشرعية الثورية.
إنني أعتب على قوى الحرية والتغيير التي تتجاهل دعوات الإصلاح لهذا التحالف، وتتغافل عن الأصوات المنادية بالنظر في التكوين الحالي للتحالف، وإعادة صياغته ليستوعب كل القوى الوطنية الثورية وطاقات شباب لجان المقاومة وفق أُسُسٍ محدّدة وطريقٌ واضحٌ ومعلومٌ اتجاهه.
7 يناير 2020 م