حاول بعض الدجاج الإلكتروني التقليل من شأن زيارة رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك مدينة كاودا، إلا أنه أخفق في سعيه تماماً كإخفاق علي عثمان محمد طه عبقري زمانه في ظن الإخوان المسلمين أو (الحركة الإسلامية اسم الدلع للجماعة) في التنبوء بمآلات المظاهرات التي اندلعت في ديسمبر 2018م، مطمئناً أهل المشروع الحضاري بأنه لا داع للخوف و”الرجفي”، فكانت النهاية اقتلاعه وكتائبه الدموية، وقلب صفحة الوهم الذي أخذ 30 عاماً من مسيرة وطننا.
إن حمدوك بزيارته عبدالواحد محمد نور رئيس
حركة تحرير السودان في باريس، ثم زيارة كاودا معقل الحركة الشعبية- شمال بقيادة
عبدالعزيز الحلو يؤكد أنه إنسان مبادر وصاحب رؤية وإرادة قوية، وهذه الصفات تميز
القائد الحقيقي، الذي يتلمس سبل تحقيق الأهداف، ولا يتردد في اتخاذ القرارات
الصعبة إذا اقتضى الأمر.
ويعطي حمدوك تحقيق السلام أولوية قصوى، ويرى أن هذا لن
يتم، ما لم تكسر الحواجز بالحوار المباشر مع حملة السلاح، وفهم منطلقاتهم، وأسباب
رفعهم السلاح.
لم يحتج حمدوك للوصول إلى كاودا إلى بذل الدماء،
وتقديم الشهداء، بينما كان البشير يريد الصلاة في هذه المدينة، ولا شك أن هذا لم
يكن ليحدث من دون إراقة الدماء، وزفة “ساحات الفداء”، لأن نظامه كان
متمترساً خلف مشروعه الحضاري الذي يرى كل أهل السودان في منزلة كفار قريش، ما لم
يكونوا أعضاء في حزب الجماعة “المؤتمر الوطني”، الامتداد لحزب
“الجبهة الإسلامية القومية” المدبر لانقلاب 1989م المشئوم.
وكان استقبال حمدوك ووفده بالورود والدموع والحفاوة
دليلاً على قرب المسافات، وعمق الصلات، على الرغم من آلام السنين، وأحاسيس الظلم
والتهميش والحرمان من ضروريات الحياة.
كانت هذه الزيارة تاريخية لأنها كسرت الحاجز النفسي
بين المركز وجزء عزيز من الوطن يشعر بالتهميش، ويرفع قائمة مطالب يراها محققة
للعدل الذي جاءت الثورة الظافرة للشعب السوداني لتحقيقه.
وأكد عبدالعزيز الحلو تطلع الجماهير المحتشدة إلى سلام
حقيقي عادل و شامل ومستدام، وأشار إلى الأحداث المؤسفة في بورتسودان وتلودي
والجنينة ومعسكر كريندق للنازحين وغيرها، وما صاحبها من ممارسات وحشية مطالباً
بتقديم المتورطين في هذه الأحداث للعدالة، واتخاذ التدبير اللازمة لضمان عدم تكرار
مثل هذه الأحداث، إضافة لتفكيك هياكل النظام السابق.
وهذه المطالب لا شك أنها مطالب كل سوداني مخلص يشعر أن
هناك من لا يزال يلعب في الخفاء، من أجل أن يعود النظام السابق بوجه جديد، وهذا
ينذر بسرقة الثورة في وضح النهار.
ومع المطالب العادلة للحلو في كل أحاديثه عن زيارة
حمدوك إلا أن أعداء الثورة لن يقفوا إلا عند دعوته إلى “ضرورة بناء دولة
علمانية تقوم على الفصل التام بين الدين والدولة”، وسيدبجون المقالات التي
تشعر من يقرأها أن البشير وصحبه أقاموا دولة الخلافة الراشدة، وكانوا يخشون أن
يسألوا إذا “عثرت بغلة في كاودا”، بينما تفضح “العربية” هذه
الأيام ممارساتهم المشينة التي وصلت إلى حد إباحة دماء بعضهم، لمجرد الخلاف في
الرأي.
امض يا حمدوك، فالحوار وحده هو بلسم هذا الشعب الصابر،
ومداواة جراح أهله بالكلمة الطيب وحسن النوايا هي الطريق إلى سلام مستديم
يستظلونه، ليقلبوا صفحات الاحتراب والاقتتال لتصبح شيئاً من الماضي، الذي لن
يستذكروه إلا للعظة والعبرة.