بعد إسقاط عبود بواسطة ثورة اكتوبر ١٩٦٤ عادت الشمولية مجددا عبر انقلاب نميري ، ثم بعد إسقاط النميري بثورة أبريل ١٩٨٥ عادت الشمولية مجددا عبر انقلاب البشير ، الان ثورة ديسمبر اطاحت بالبشير و هذا يعني ان الاسباب التي ادت الى عودة الشمولية بعد الثورتين السابقتين اذا لم يتم تلافيها في ثورة ديسمبر فان الشمولية ستعود من جديد .
في كل مرة عادت الشمولية كانت أطول عمرا و أشد فتكا بالوطن و المواطنين ، و هذا يجعلنا نتوقع أن تكون الشمولية التي تلي ثورة ديسمبر شمولية لا تبقى لا وطنا و لا مواطن . و هذا تنبيه لجميع الثوار ، و عليهم ان يثبتوا بالعمل الموحد ان ثورة ديسمبر مختلفة عن ثورتي أكتوبر و أبريل ، و إنها تحمل في داخلها مشاريع و خطط عملية تمنع عودة الشمولية .
و هذا الاثبات صعب و يحتاج تضحية و عمل مستمر و ذلك لأن المشاريع المقدمة حتى الآن تشبه كل المشاريع التي قدمتها الأحزاب و النقابات و الكيانات في ظل انتفاضتي أكتوبر و أبريل ، هي مشاريع نظرية انهارت في اول الطريق التطبيقي ، إذ نسيت الأحزاب تعاونها و وطنيتها التي كانت ايام النضال ضد الشمولية حين جاءت سكرة السلطة و دخلت في صراع سياسي عنيف و تشاكس عبثي ، جعل السمة المميزة للحكومات الديمقراطية هو الاطاحة بالحكومات الائتلافية الواحدة تلو الأخرى حتى وصل الأمر إلى الاطاحة بالنظام الديمقراطي باكمله بواسطة ذات الاحزاب التي ناضلت من أجله .
الآن أرى تشاكسا واضحا لا تخطئه العين بين الاحزاب و الكيانات التي تمثل قوى الحرية و التغيير ، ففي الوقت الذي يجب أن تحرص فيه هذه الأحزاب على وحدة الكيان الذي قاد الثورة و العمل معا كتلة واحدة فهي الآن تتناوش فيما بينها ، و في الوقت الذي يجب أن تركز فيه جميعها و معا على عدو واحد هو الدولة العميقة ، فهي الآن تخوض صراعا بينها .
مشاريع الإسقاط التي اعقبت ثورتي اكتوبر و ابريل فشلت في المحافظة على استمرار الديمقراطية و فشلت في حل ازمة السودان السياسبة التاريخية و كل هذا كان بسبب تشاكس الاحزاب و ضعف ديمقراطيتها و تلهفها على السلطة . و الوضع الراهن لقوى الحرية و التغيير لا يبدو انه يبشر بتغيير شامل و إنما الواضح أنه يسعى في تعقيدها مما قد يفتح الباب امام انقلاب جديد ، لذلك مهم إعادة النظر في اسلوب التغيير الذي تنتهجه قوى الحرية و التغيير و نقده و تحليله للوصول إلى المدخل الصحيح لعلاج مصدر الشمولية و صورتها النهائية .
و المتتبع لمصدر كل الأنظمة الشمولية يجدها خرجت من الأحزاب السياسية ، و لم تخرج من الجيش لوحده ، فانقلاب عبود كان مصدره رئيس الوزراء عبدالله خليل ، و انقلاب النميري كان بدعم من الحزب الشيوعي ، و انقلاب البشير كان بدعم و تخطيط حزب الجبهة الإسلامية.
الأحزاب كانت هي سبب و مصدر الشمولية ، و النظام الشمولي كان نتيجة لهذا السبب ، لذلك إسقاط النظام بدون علاج اشكالات الاحزاب السياسية و صراعها المزمن و الكارثي هو علاج النتيجة و ليس السبب و هو مدخل خاطيء للاعتماد عليه لوحده في علاج أزمة الحكم التاريخية في السودان ، إذ أن العلاج يجب أن يستهدف السبب و هو شمولية الأحزاب السياسية السودانية و عقيدة ضباط الجيش المستجيبة للاستغلال السياسي و المتعطشة للحكم و السلطة .
sondy25@gmail.com