الخرطوم – التحرير:
قرية أبو صاري قامت على أكتاف أهلها، الذين هاجر كثيرون منهم إلى خارج الوطن سعياً وراء الرزق، ولتوفير ضرورات الحياة لذويهم، تاركين وراءهم العجزة والنساء والأطفال أمانة في أحضان القرية الوديعة الآمنة.
تبدد أمن هولاء، وتبدل خوفاً وهلعاً، بعد أن بدأت – على نحو مفاجيء- الآليات المجنزرة والثقيلة تدخل إلى القرية، وعلى أطرافها تقف عربات الدفع الرباعي تقلق منام الآمنين، بعد أن أكدت الدراسات أن القرية غنية بمعدن الذهب، وبدأت أنظار الشركات تتجه نحوها، وهي التي كانت إلى وقت قريب تحلم بزيارة مسؤول حكومي، ناهيك من تقديم خدمات بها، فهي تعتمد في الخدمات على الجهد الشعبي الخالص، حالها حال معظم قرى الولاية الشمالية، لا سيما قرى سكوت.
وحظيت شركة تركية تحت مسمى شركة (دلقو) للتعدين بمربعات امتياز على الأطراف الشرقية للقرية، وامتد نشاطها التعديني حتى الناحية الغربية، وبدأت عملها في النتقيب عن الذهب واستخلاصه في المنطقة باستخدام مادة (السيانيد) المسرطنة، بعد أن صممت أحواضاً كثيفة، ونصبت فوق حوافها لافتة تحذيرية مكتوب عليها (ابتعد منطقة خطرة) .
تسرب المياه:
تلك اللافتة حولت أمن القرية إلى خوف ورعب خصوصاً أن أحواض الشركة بدأت بعض مياهها يتسرب خلسة إلى الأرض اليابسة المتعطشة، فأصبحت اللافتات المنصوبة هناك حديث مجالس القرية همساً وجهراً، وبدأ بعض شباب القرية يعودون إليها لنصرة أهليهم من خطر تلك المياه المتسربة من أحواض التعدين إلى أراضيهم، التي ربما تسببت في ظهورأمراض تفتك بشيوخ القرية ونسائها وأطفالها، بل حتى زرعها وضرعها، وتقضي على الأخضر واليابس.
مقاومة الأهالي:
استشعار الأهالي ذلك الخطر المقبل إلى قريتهم جعلهم يتنادون لمقاومته، فتكونت لجان للتفاوض من بعد تنفيذ اعتصام داخل القرية قبل ثلاثة سنوات. لم يقو أحد على تفريقه إلا بعد أن جرى التفاوض بين لجنة القرية وبعض المسؤولين في دنقلا، والدفع بوعود راحت سراباً، ولم ينفذ منها شيء حسبما أشار رئيس اللجنة سراج سيدأحمد أبوزيد، بل استمرت الشركة في توسيع أعمالها داخل المنطقة، وشيدت المزيد من الأحواض التي تتسرب من تحتها الماء الذي يعتقد المواطنين أنه مخلوط بمادة السيانيد، ومن ثم تصاعد الغضب الشعبي، ونشطت اللجنة، ودخلت في تفاوض آخر مع معتمد المحلية، وعدد من المسؤولين في الولاية.
رئيس لجنة المواطنين بالقرية قال: “إن مخلفات الكرتة والسيانيد والزئبق ومخلفات المياه في الأحواض أصبحت بالقرب من طريق الأسفلت، وفي مجرى السيل، ولو حدث لا قدر الله وانفجر الحوض فليس لمياهه من سبيل غير أن تصب في النيل، وربما اختلطت بالمياه الجوفية”.
وأشار أبوزيد إلى أن هناك مشكلة أخرى، ألا وهي التفجيرات في المنطقة غرب شارع الأسفلت والاحتكاكات بين الأهالي في المنطقة والشركة؛ لأن وزارة المعادن تعطي تصاديق بالتعدين، وهنالك بلاغات كثيرة من الأهالي في مواجهة الشركة بسبب التصدعات التي أحدثها التفجير بالمنازل.
إجتماع ومطلوبات:
وقد حصلت (التحرير) على نسخة من المطالب التي قدمتها لجنة المواطنين إلى المسؤولين بالشركة بحضور المعتمد، وهي تتمثل في الآتي:
– إزلالة الأحواض وترحيلها شرق الشارع، بعيداً من مناطق الخطر، ومجارى السيل.
– ترك المنطقة الغربية لتعدين الأهالي، ومنع الشركة من التنقيب فيها؛ لأن التفجير سبب أضراراً كبيرة للناس، ولممتلكاتهم.
– التزام الشركة تنفيذ الخدمات في المنطقة من باب المسؤولية الاجتماعية .
وعلمت (التحرير) أن جهود لجنة المواطنين لم تقف عند هذا الحد، بل قامت بالاتصال بالجهات ذات الصلة في وزارة المعادن، ودفعت بخطاب بواسطة مدير الشركة السودانية للمعادن لمعالجة الأوضاع، وتسوية الخلافات بين الشركة والمواطنين، وأفلحت في الاجتماع بالشركة السودانية للموارد المعدنية المحدودة (وهي شركة حكومية تتبع لوزارة المعادن)، وخرج الاجتماع بمقررات تمثلت في معالجة مضرب المياه بالتنسيق بين الشركة والمحلية، وقيام الشركة السودانية للموارد المعدنية بمراجعة موقع الحوض من ناحية السلامة والآثار المترتبة عليه، ومحاسبة شركة (دلقو) وفق لائحة المخالفات والتسويات (التسريب ـ التفجير)، والتزمت الشركة السودانية ذلك، لكنها لم تحدد سقفاً زمنياً لانهاء الأزمة، وتنفيذ مقررات اجتماعها مع لجنة الاهالي.
وصعدت اللجنة مطالبها بعد ذلك وتمسكت بمغادرة الشركة للموقع، وسحب آليات مصنعها فوراً.
ويتهم بعض الأهالي المسؤولين، ويشيرون إلى أن منهم من يتخفون وراء الشركات الأجنبية، ويتبنون مشروعات ربحية ضاربين عرض الحائط بتأثيراتها السالبة في البيئة.
وفي الأيام القليلة الماضية تفاقمت الأوضاع في صواردة بعد الشروع في إقامة مصنع للتعدين يستخدم المعالجة بالسيانيد، ويبدو أن الأيام حبلى بأحداث ساخنة في الولاية الشمالية بعد تعارض كثير من المشروعات مع رغبة المواطنين.