الطواف
كان خير السيد في ذلك الزمان يبدأ طوافه الصباحي حول خاصرة امدرمان من غرفة طينية صغيرة خلف طاحونة الخواحة كلوبوس في حي العرب ماراً بزريبة العيش ثم ينعطف يساراً في اتجاة الشرق عابراً العرضة فحي الشيخ دفع الله ثم فريق الاسبتالية فالملازمين ومنها يعرج على الشهداء ويواصل شمالاً قاطعاً خط التورماي في ود درو نحو الهجرة. ثم ينعطف يساراً على شارع الدومة وصولاً لحي العمدة فالمسالمة فحي العرب لينتهي حيثما بدأ عند تلك الغرفة الطينية المنزوية خلف طاحونة الخواجة والتى لم يعرف سرها أحد. هل كان يسكن فيها ام كانت مخزناً لأغراضه؟
كانت الغرفة تقع في ركن حوش صغير قامت في وسطه شجرة
نيمة عملاقة غطت الغرفة وانتشرت فروعها خارج حدود الحوش بحيث يصعب رؤية ما
بالداخل. هل كان يتخذ الغرفة مخزناً يخزن فيه ما يخزن ومعملاً يصنع فيه ما يصنع
وينام تحت شجرة النيم؟ هل كانت له اسرة؟ ضيق المكان لا ينبئ بذلك. إذن الرجل فيما
بدا كان يعيش لوحده.. هذا إذا كان فعلا يعيش هناك وليس في مكان اخر غير معلوم. لا
أحد كان يعلم على وجه الدقة.
سألت جدتي عن ذلك الرجل الشيبة ذات يوم ونحن صبية لم
نستطع مقاومة الفضول لمعرفة سره، فقد كنا نراة كل يوم تقريبا وننتظر مجيئه بلهفة
وتشوق. كان يضحك معنا واحيانا يلعب الكرة لدقائق ثم يكرمنا من طيباته. وجدتي كانت
امرأة حكيمة تعرف دين الله ودنيا الناس. قالت بعد أن كورت كرة صغيرة من السعوط
ووضعتها بعناية فائقة في أقصى فمها:
”
شن خبرني يا ولد مما فتحنا في الزايلة دي وخير السيد
ياهو خير السيد ب شيبو ده وطبليتو دى. لا بكبر لا بصغر وما عرفنا ليهو بلداً لا
اهل. في ناس قالوا راجل صالح قريشاتو البسويهن في شغلاتو دى بقسمن كلهن على
المساكين واليُتمة ويقعد بجوعو. وفي نساوين قالن معرس جنية مسلمة بتجيب ليهو العدة
السمحة دى من بلاد فاس الما وراها ناس. وكمان في واحدين فوق فريق السوق قالو يمكن
يكون نبى الله الخضر.” تضحك وتواصل: ” استغفر الله من كلام الناس. لكنو
زولن طيب وحاجاتو سمحة بالحيل وناس امدرمان ديل كلهم بقو اهلو وحبانو ويشهد الله
يا ولدي العدة الفوق البترينة ديك كلها من خير السيد.. من صحانة البواشري لغاية
صواني النحاس حقات الكنافة البحبها جدك زى عيونو.” تصمت برهة.. ثم تواصل:
” جدك عيونو بالتقِدَهِن ليهو.. مروتي كِملت يا ولدي ورا الكنافة.”
جدتى كانت ذات خيال واسع لا تتحرج من استخدامه لاضافة
قليل من إثارة وكثير من فنتازيا في حكاياتها. وربما روايتها الاولى عن صلاح خير
السيد هي الاقرب الى الحقيقة. مهما كان الحال، لا يهم الآن ان كان رجلا صالحاً ولا
يهم إن كان زوجا لجنية من بلاد فاس أو عفريتة من واق الواق. ولا يهم اين كان يسكن.
وكما قالت جدتي ” خير السيد ياهو خير السيد” يحمل في جنباته عشق امدرمان
ويطوف بة الدروب والحوارى. وذلك كان كافياً.
لم يكن خير السيد في طوافه حينذاك يلتزم دائما بخط
سيره الدائري حول امدرمان. احيانا لم يكن من مناص إلا ‘التخريم’ هنا وهناك الى
داخل الأزقة والجخانين: مرة زريبة الكاشف وفريق السماسرة في الركابية، ومرة ود
البنا وبيت المال وتارة العباسية والهاشماب وفريق ريد وشارع الفيل دفعة واحدة
وهكذا. لم تكن وراء ذلك الجهد المضني حملة تسويقية ولا تحصيل لمال، بل لأن هناك من
ينتظره. ولم يكن خير السيد ليخيب عشم من كان ينتظره طفلا او سيدة حتى وان كان ذلك
يعنىي التوغل بما ناء به كاهله الى عمق جخانين امدرمان التي ما عرف سرها وسحرها
إلا أهلها. وعلى غير ما يظن البعض فإن تلك الدروب الضيقة والنفاجات بين البيوت (short cuts) لم تصمم اعتباطاً. كانت
وما زالت تقريباً للمسافات وإلغاءً للحواجز وتعزيزاً للروابط والمَحَنّة بحيث يمتد
البيت الواحد من أول الحي الى آخره. الحوائط لا تعني شيئا. وبساط التراب الذي يغطي
أرض امدرمان احمدي على الدوام مشى عليه خير السيد جيئة وذهابا، مراراً وتكراراً
وأدرك بحسه المرهف مغزاه. فوصل اهل مدينته اينما كانوا ولو تحت امواج النيل
اسهاماً منه في ذلك التواصل الامدرماني المتفرد.
النداء
مسافة لا تقل عن عشر كيلومترات كان يمشيها خير السيد
صباحاً وعصراً، يوماً بعد يوم وعاماً اثر عام يحمل على عاتقيه رهق عشرات السنين في
صبر ورضاء ويدفع أمامة ترولي صنعه بنفسه (ربما في غرفة الطين تلك) وازدانه بالنقوش
الملونة والزخارف… اسماء وحروف وتصاوير بديعة غطت جنبات الترولي بزخم من
الالوان، وملأه باصناف منتقاة من الأواني المنزلية والتي رصها بعضاً فوق بعض في
هرمية محكمة وتنسيق هندسي متقن يجعلك تتعجب كيف لم تتارجح أو تنهار وهو يشق بها
حواري امدرمان ودروبها لا تعترضه حفر ولا يعكره بشر ولا تبهته كشة ولا يجلده جلاد
في قاعة المحكمة ولا تنتاشه رصاصة قناص خناس. اراه الآن وبعد كل هذه السنين واقفا
في شموخ خلف الترولي الأنيق بجلبابه الناصع البياض وفي يده مزماره الصدوح وعلى
رأسه تاج المشيب وابتسامة الترحاب على وجهه وفى حدقات عيونه حب امدرمان.
كل صباح في ذلك الزمان كان اهل امدرمان يسمعونه ينادي
على بضاعته بصوت جهور تهتز له اركان البيوت لكنه كان طروبا وبه بحة تسعد القمري في
“سماهو” :” براريد الشاي، فناجين القهوة، الغرافات، العراضات،
الباشري سكسوني اصلي…” اليوم نتحسر ونتساءل أين هم السكسون يا خير السيد
واين القمري؟
كان نداؤه الصباحي يلف امدرمان قاطبة بغلالة من
طمأنينة ويقين تحمله نسائم وتنشره نسائم على كل درب فوق كل بيت من كل حي. لم يكن
النداء إعلاناً تجارياً قحاً لبضاعة بل كان في جوهره رسالة مبطنة تقول: يا اهل
امدرمان خير السيد يناديكم.. انتم في أمان ومدينتكم في أمان.. تأخذ الأمان وتعطي
الأمان.. سلام وأمان. سماؤها لم تقع، وأرضها لم تمد، ونيلها لم يجف، وطيورها لم
تهاجر. دار الاذاعة في مكانها تحتفل بميلاد يوم جديد كل صباح بكلمتين فقط يطلقهما
محمد صالح فهمى بصوتة ذاك القوي مجلجلا في الآفاق: ” هنا امدرمان”. كلمتان
فقط فيهما فصل الخطاب فيصمت الجميع. والجامع الكبير في قلب السوق لم تباع ارضه
لمستثمر خليجي، وكنيسة الشهيد ماري جرجس في المسالمة باقية لم تهد، والمشافي تقدم
العناية الطبية مجانا وبمهنية وبالموجود لم تتحول بعد الى مواخير درجة ثالثة،
وجماهير الكرة في دار الرياضة منتشية بسحر برعي وصديق منزول، وظرفاء امدرمان
يوزعون الفكاهة الساخرة والشفتنة الامدرمانية الذكية على مجالس المدينة. قهوة يوسف
الفكي مازالت تقدم الشاي الساموطي في كبابي الشوب، وباسطة عمر بين تقطر عسلاً
وسمناً، وارغفة الفاضل اب احمد متراصات في طابونة حي الشيخ دفع الله كنواعم مثل
البدور مستديرات مذهبات مدلالات وكل واحدة منهن تهمس لك: ” خذنى قد هيت
لك” وعلى مرمى حجر او حجرين صاج السبكي في الموردة ما انقطع عن عرائس النيل،
واشجار المهوقني تتمايل طرباً مع سمار الليل في حديقة الجندول. واستاذ عثمان حسن
احمد يشرح جزيرة الكنز في مدرسة الاميرية كممثل مقتدر واستاذ محمد توم التجاني في
الاهلية يحكي عن كوش والممالك المسيحية ومحمد احمد عبد الله. قدرة احمد سعد في ود
البصير متوهطة على كانون ماهل رحيب ككنداكة متوجة يجثو تحت قدميها الرجال الصناديد
ويأتمرون بامرها. وما وراء ذلك كان مسك الختام.. المحطة الاخيرة.. تُرب احمد شرفي
حيث رقد أهل امدرمان على حضن المدينة راضين مرضيين بعد ان عاشوا في كنفها أمنين
سالمين. ولا يضير من ينتظر – حينما تحين ساعته – ان يرقد الى جنبهم يرافقهم في
رحلة الممات كما رافقهوه وحنوا عليه في مشوار الحياة. لن يضيره في شيء بل هو شرف
وأمنية.
تلك كانت رسالة خير السيد. فهمها اهل امدرمان كما لم
يفهمها غيرهم لان ذلك الفهم كان جزءاً من موروثهم الطبيعي الذي انتقل عبر السنين
من والد الى ولد ومن معلم الى تلميذ ومن جار الى جار ومن شاعر الى مغن ومن عاشق
الى معشوق وشكل الشخصية الامدرمانية حساً وحدساً.. لغة واشارة ومعنى.. هوية داخل
هوية لا تتناقض ولا تتصادم مع الغير بل تحتويه وتحضنه حتى يصير منها وبها كما غنى
العميد قصيدة عبد المنعم عبد الحي ود امدر الاصلي:
انا السودان تمثل في ربوعي
انا ابن الشمال سكنتو قلبي
على ابن الجنوب ضميت ضلوعي
انا امدرمان.
توادد وتراحم وتكافل عفوي ومنساب.. هكذا ببساطة. اذن
الأمر لم يكن بحاجة الى انقلاب كذوب ولا مشروع حضاري مضروب ولا حتى وزارة اوقاف
افك وضلال. وخير السيد كان خير مثال لذلك الانصهار والتلاحم.
خير السيد كان يبيع العدة في الصباح والداندورما والزبادي
في العصر من نفس الترولي وعلى ذات الدروب والأحياء. كنا ونحن صبية نجري من خلفة
ونردد اهازيجة ونتصايح: خير السيد ميزو بعيد. كان يوزع أطايبه علينا بلا مقابل، كل
واحد منا كمشة كبيرة نملأ بها أفواهنا فتلسعنا برودتها بينما هو يتضاحك فرحاً
يسعادتنا الممزوجة بالألم. خير السيد ميزو بعيد كان يمثل لنا الخير بأكملة رغم
أننا لم نكن نعي – وقتها – معنى الخير ولم ندر ما وراء الميز البعيد. كان علينا ان
نعيش ونرى شر السيد وضيق الميز في هذا الزمن لندرك حجم ما اضعناه. فخير السيد كان
سيد نفسه وخيراً على امدرمان. وخير السيد تخطى الميز البعيد (حرفياً ومعنوياً)
ليصل. طوافه الامدرماني اليومي لم يكن تهافتاً على تجارة بقدر ما كان هياماً
بادرمان وتواصلاً مع اهل امدرمان وتصالحاً مع نفسه. ففي بهجته ‘بهجة امدرمان’
نوستالجيا؟ نعم نوستالجيا ونص. ولم لا؟ ماذا نملك – فى هذة الساعة – غيرها؟ ترولي
خير السيد الأنيق تبدل وصار تايوتا ساتشر منصوب على سطحها مدفع دوشكا عيار 12 ملي،
واواني خير السييد المنتقاة اصبحت دانات وذخائر تحصد صبية المدارس. وزبادي خير
السيد الناصع البياض صار دماً احمراً قانياً يسيل على الطرقات ارباً وفتات بشريا.
تراهم يجوبون شوارع امدرمان بلعبهم المميتة ولا يعرفون الفرق بين ميدان الخليفة
وميدان الربيع. يحاصرون الاذاعة ولا يفقهون ان الداخل الى ذلك المبنى العريق يدخل
بموهبته وفنه وليس بدبابة. ابرهيم الكاشف لم يدخلة بكلاشنكوف والطيب صالح لم يدخله
بسيخة وخليل فرح لم يدخله بقرنيت وفايزة عمسيب لم تدخله بحزام ناسف. لعل هولاء
المهووسون يظنون (أو يظن من ارسلهم) أن امدرمان هي حلايب. عار على جبين من فعل
وعار أكبر على من عرف وصمت ووسام على صدر جيل جديد لفظ هولاء وأولئك وما صمت.
المغيب
وذات عسق حزين أنهى خير السيد طوافه اليومي حول
معشوقته وهجع سعيداً حيثما هجع. فقد تركها كما هي دائماً في ألقها البهي وسحرها
الأخاذ. صدح لها بصوته وبمزاميره آلاف المرات وأسعد صغارها وأرضى كبارها فنام غرير
العين: سيد نفسه وخير امدرمان.
كان ذلك الطواف الاخير. مضى خير السيد ومعه تلك الصورة
البهية.
مرت أعوام وتبدلت أحوال. ولى زمان خير السيد وحلّ زمن
شر السيد. وها هى معشوقته ترفع صوتها بالنداء له عبر العوالم رغم الألم ورغم
الشرور:
انا امدرمان لسان حالك..اريتك تدري بحالي
انا القَدَرتَ احوالك وحبك بِدري احوالي.
فهل يسمعها؟
طوبى لخير السيد ميزو بعيد في الأعالي.