في 21 مايو 2017م أوردت الشرق الأوسط خبراً مهماً من الكوكب السوداني، وفيه سيسمح للقطاع الخاص المحلي بالحصول على تمويل من مؤسسات مالية دولية. وهو خبر غير عادي على أي حال لبلد كالسودان، الذي ظل يعيش حال عداء استثنائي لقطاعه الخاص؛ وهذا ما يجعل الخبر يؤشر إلى بداية تصويب عقود التخبط والممارسات الاقتصادية التي لم تفلح إلا في توليد جيوش الفقر، والفساد، والإساءة إلى سمعة التجارة والتجار.
ولا عجب، فاقتصاد التمكين تدحرج بالتجارة وسمعة التبادل التجاري إلى قاع سحيق، صارت فيه صورة هذا الكوكب أقرب إلى انعدام الأنظمة، منه إلى وجودها، وهذا ما يعكس غيابها، ويعكس الانهيار الشامل لسلوك التاجر السوداني الذي كان نموذجاً، وصار اليوم أثراً بعد عين. فالإنقاذ لم تبق من قطاع الأعمال التاريخي شيئاً، ولم تذر، وفي المحصلة لم تتأكل السمعة التجارية فحسب، بل تعطلت المصانع، وأضحت القوى البشرية المنتجة عاطلة، وغاضبة، وناقمة، ولا تجيد إلا رفع السبابة، ولكن للنفاق.
ومع ذلك تقتضي الموضوعية الإشارة إلى أن هذه الخطوة السودانية محاوله لتغيير الصورة الكالحة، ولو بالمشي المستمر فوق خطوط حمر وصفر، والتي بين بين، لعله بذلك يتجاوز إرث الشيخ الترابي، أو يفرز الكيمان.
ويمكن ربط هذه الخطوة بتطور حدث في ديسمبر الماضي، حين أقر المجلس الوطني سياسات تحد من تغول شركات الحكومة على الدور الوظيفي للقطاع الخاص. وهذا المشي على الخطوط الحمر يبدو كأنه ذبح للبقر الإنقاذي المقدس، ومن الأبقار: قانون الزي الفاضح، الذي سيتم ذبحه، أقصد مراجعته في مقبل الأيام، ولكن يُقلل من صدقية هذا التوجه محاولات مواربة تعيد إنتاج تنظيم الشيخ الترابي، فانضمام دهاقنة الجبهة الإسلامية القومية للتشكيل الوزاري الجديد مؤشر يعدّ خصماً على جدية الحكومة، ويطعن في صدقيته، إذ إن تم تمثيل حزب الترابي في الرئاسة، وفي المجلس الوطني، ومجلس الوزراء قد يبرز ما خفي، وهو أعظم.
وعوداً على بدء، ففي كوكب السودان لا يستطيع أي محلل أن يتفاءل أو يتشاءم مثلما لا تستطيع أن تعرف أين ستنتهي حدود القطاع العام، أو أين يبدأ القطاع الخاص. ففي هذا العهد (الميمون)، الرمال دائمًا تتحرك لتنفي نفسها أو تدفنها؛ لهذا يصعب التكهن بأن سماح الحكومة مقصود به جماعتها، أم شركاتها، أم شركات القطط السمان، أم جمعيات خيرية، و(بازارات)، وأنشطة بعضها معفى من الجمارك؟ لأن القطاع الخاص الأهلي صار مثل ميت مسحوب إلى حبل المشنقة. يزيد من الغموض محاولات سابقة في هذا المنحى، قام بها الدكتور عبد الوهاب عثمان –رحمه الله- لإحياء القطاع الخاص، ولو بالحد من الإعفاءات الجمركية، ولكن تلك المحاولات ذهبت أدراج الرياح.
والتراجع اليوم -الذي يتبدى كأنه تراجع عن إرث الجبهة الإسلامية – يعدّ فضيلة إذا عكس جدية وعكس قناعة بأن برنامج الشيخ حسن الترابي صنع هزيمته الاقتصادية بنفسه، وهذا ما يستلزم القفز من مركب أضحى غرقه حتمياً. ومن الجدية، منع تغول القطاع العام والتمكيني على القطاع الخاص، فليس ثمة حكمة من إضعاف القطاع الخاص بسياسات عقابيه وضرائبية وإغراق من أجل حيازة أنشطة، مثل: إعلانات الشوارع، وامتلاك المطاعم، والمطاحن !
وعلى أي حال لا يمكن النظر إلى أي نظام برؤية واحدة ثابتة، بينما يصح النظر بمعيار ثابت إلى عمل القطاع الخاص الطبيعي والحيوي، والثابت الوحيد هنا كف يد القطاع العام عن أي نشاط تجاري منافس لقطاع الأعمال السوداني، وإلا فإن السماح بالتمويل الخارجي سيكون مجرد صيحة في واد لن تحدث حتى الثقبة، التي قال بها أمل دنقل (نثقب ثغرة، ليمر النور للأجيال.. مرة). فلا بد من جدية ومراجعة شاملة تزيل ثقافة كراهية القطاع الخاص، فالتاجر ليس عدواً للشعب، وليس ضد مصالح المستهلك. والمراجعة تستلزم إعادة الاعتبار للذين تم تجريف نجاحاتهم التجارة، وتوزيع وكالاتهم كغنائم حرب لرأسمالية طفيلية تمكينية شرهة صارت تزحف على أي شيء؛ بما في ذلك ساحات المساجد، وحدائق الأحياء؛ لتحولها إلى دكاكين تعليمية وعلاجية، ويكفي دلاله على صحة هذا الاستنتاج زياره ميادين المحطة الوسطى بأم درمان، وعمارة الشيخ مصطفى الأمين.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نحن أمام سن أنظمة قانونية حقيقية أم أمام قانون يجاز دون أن يلتزم بما فيه؟ أم أننا أمام مغادرة نهائية لإرث ثقيل الدم، وسياسات اقتصادية فاشلة.