من بين كل أفراد جيل المؤسسين للصحافة السودانية الحديثة كان الأستاذ محمد أحمد السلمابي مميزا، وصاحب قلب كبير، ورجل حسنات. سواء في صحافته، أو رأسماليته الوطنية الممتدة، ربط بين تنويره وما طبقه على أرض الواقع. منذ بدء النصف الثاني من الأربعينات ظل يكتب مقالات عديدة داعيا للاهتمام بتأسيس دور التعليم، والصحة، وحين وجد المال أنفقه متبرعا بإنشاء مدراس، ومستشفيات للنشء خصوصا. وهذا القلم استفاد من تأسيس الصحافي الراحل للمدارس. ذلك في تربة بعيدة عن المركز. فمدرسة السلمابي المتوسطة الكائنة هناك في مدينة الفاشر تخرجت منها مثلما تخرج منها صحافي نابه خطفته يد المنون سريعا، وهو لما يكمل الخامسة والثلاثين: محجوب محمد أحمد.
أذكر أن أستاذنا عبد الكريم في آخر حصة عربي له – بينما نحن مقبلون على امتحان الثانوية – سألنا عن أمنياتنا في الحياة عندما نغدو كبارا. حين أتى دوري قلت إنني اتمنى أن أكون صحافيا مثل الشخص الذي أنشأ هذه المدرسة. أما محجوب فقال إنه يتمنى أن يكون أديبا. والذين سافرت عيونهم مع قلمه يدركون كيف أن محجوبا كان في مقالته “يهدهد” الكلمة الرياضية، كما وصف لي أبو آمنة حامد صوت ليلي المغربي حين كانت تضخ نفحات الصباح. على أن الآلاف الذين تخرجوا من تلك المدرسة صار من بينهم أطباء يمارسون المهنة في الولايات المتحدة حتى، وضباط كبار في القوات المسلحة، ومهندسون، ومترجمون مع الأمم المتحدة، ورياضيون، من بينهم لاعب ومدرب الهلال العاصمي محمد الفاتح حجازي الذي كان يقاسمنا الجلوس في الصفوف الأمامية. ولعله لا شاهد للغرس المثمر لأستاذنا الكبير السلمابي أكثر من هذا.
ولكن هناك قائمة منجزات أخرى حققتها مؤسسة السلمابي الخيرية من المستشفيات والمدارس. فابتداء من عام 1970 وحتى عام 1977 نجد بناءه مدرسة بري الابتدائية للبنات، ومستشفى سعة 64 سريرا بكركوج مديرية النيل الأزرق، مدرسة القضارف الثانوية العامة بنات، بناء مدرسة الفاشر الثانوية العامة بنين، ومستشفى وعنبر للأطفال بكسلا سعة 32 سريرا، ومستشفى للأطفال بعطبرة سعة 64 سريرا، مدرسة ابتدائية بالجزيرة أبا للبنين، ومجمع صحي بقيسان بمديرية النيل الأزرق، ومجمع صحي ببري امتداد ناصر – الخرطوم، ومركز لتأهيل الصم والبكم بمدينة الرعاية الإجتماعية بسوبا، عنبر للأطفال بمستشفي كادقلي بجنوب كردفان. وأخيرا أنشئ مركز صحي السلمابي ببري، والذي تم تدشينه حديثا بصيانته، وزيادة كفاءة عمله، واستصحاب فكرة العلاج الناجع للمريض من خلال إخصائيين مهرة، وتقوم بالإشراف على العمل بالمركز د. امتثال محمد أحمد السلمابي، إخصائية الباطنية والروماتيزم تحت مظلة نهج (وقف الوقت) فتقوم بتقديم العلاج المجاني ليوم كامل تقضيه بالمركز.
وفِي ما خص رعايته الخاصة لجامعة الخرطوم، ومؤسسات أخرى، يقول الأستاذ الأمين عبد الرحمن عيسى إن السلمابي “رصد في 3 أكتوبر 1964 ما قيمته اليوم 20 مليون جنيها، منها 12 مليون جنيها لمنح دراسية، و 4 مليون إعانة للطلاب الفقراء و4 مليون جوائز لأحسن طالب يكتب بحثا في مواضيع سودانية باسم “جائزة السلمابي”، وبعد ثلاث سنوات رفع هذا المبلغ إلى 30 مليون ثم بعد خمسة سنوات أخرى ارتفع المبلغ إلى 40 مليون وبعد خمسة سنوات أخرى رفع المبلغ إلى 240 مليون جنيها.. وفي سبتمبر 1975 قرر تخصيص 5% من إيراد المؤسسة السنوي (ما قيمته نحو 60 مليون جنيه اليوم) لتشجيع البحث العلمي، وتخصيص 10% من إيراد المؤسسة السنوي (ما قيمته اليوم 120 مليون جنيه) لحوافز تشجيعية توزع لأوائل الكليات أو للحائزين على درجة الشرف الأولى على ألا تقل الجائزة عن مليون جنيه ولا تزيد عن 2 مليون. وفي عام 1976 زيدت مخصصات جوائز معهد الدراسات الإفريقية والأسيوية إلى ما قيمته اليوم 20 مليون بدلا عن 10 مليون، كما خصص ثلاث منح للدراسات العليا بلغت كلفتها 150 مليون، وكذلك مبلغ 20 مليون جنيه إعانات لشؤون الطلاب..”.
ويضيف الأمين “أنه في العام 77-78 قدم السلمابي ما قيمته اليوم 240 مليون جنيه إعانة لجامعة الخرطوم منها 50 مليون لمدرسة العلوم الرياضية. ثم خصص غير ذلك ما قيمته 10 مليون إعانة سنوية لكلية الدراسات الهندسية وما قيمته 4 مليون لرابطة كلية الطب و6 مليون مساهمة في علاج طالبة مريضة. وفي العام 78/79 اعتمد طلبا لإسكان طلاب وطالبات الدراسات العليا بجامعة الخرطوم كما تكفل بمشروع أولمبياد الرياضيات الثاني لطلاب المدارس الثانوية بكلفة قدرها اليوم 200 مليون..”.
-2-
هذا غيض من فيض الصحافي السلمابي الذي نقدم سيرته العطرة لأثرياء اليوم الذين شحت أياديهم من تقديم العون للعمل الخيري، وكثير منهم اكتسب هذا الثراء في ظل مناخ الفساد. إنه نموذج لواحد من أبناء السودان البررة الذين ما غرهم المال لتكديسه، أو نقل استثماراته للخارج. ولَم يفعل السلمابي ذلك ما دام ماله الحلال قد اكتسبه بتفكيره الاستثماري الناجح، وأعاده لمجتمعه في شكل خدمات مجانية لا يبتغي بها المزيد من النفوذ الاجتماعي، أو السياسي، وإنما مرضاة الله. ولو كان السلمابي يريد جاها سياسيا من خلال توظيف أمواله كما يفعل كثير من أثرياء اليوم لفعل، وحاز على مراكز عليا في الدولة. ولكنه فقط آثر أن يتفرغ للعمل الخيري الذي أحبه، وعرف به، وحاز على احترام شعبه.
إذا فحصنا استثمارات السلمابي الخيرية نجدها قد غطت كل بقاع السودان، إذ لم يكن جهويا ليركز أعماله هذه على منطقة في السودان دون أخرى. بل جاء تركيزه لشمل المناطق الطرفية في معظم جهات السودان. وهذا يدل على نظرته القومية، وحبه لكل بقاع البلاد بالتساوي، هذا بخلاف أن الأموال التي رصدها للطلاب، والمستشفيات التي بناها للسودانيين كانت تشملهم جميعا، بلا تمييز في الجهة، أو المعتقد.
في حوار أجرته معه صحيفة الأضواء يقول محمد أحمد السلمابي: “ولدت في قرية كركوج بمنطقة الفونج 17 مارس 1920 من أسرة توصف بالفقر، وفي عام 1926 التحقت بالمدرسة الأولية، وتخرجت فيها في العام 1930، ولم يقدر لي أن انتقل إلى مرحلة التعليم الأوسط بالرغم من أنني كنت على توالي سني دراستي أول فصلي، وذلك لأن والدي كان فقيراً ويعمل في الزراعة بجهده وحده وله (تشاشة) برأس مال لا يتعدى أصابع اليدين، لذلك انقطعت عن الدراسة وفي نفسي حسرة طفل يود أن يقفز في سلم التعليم، وصاحبت والدي أعينه على الزراعة..”.
تقول الأستاذة وصال محمد أحمد السلمابي إن علاقة والدها بالعمل الخيري “بدأت ببيت شعري كانت تردده له والدته فاطمة بت علي ود رحمة، منذ قدومه للدنيا: أمك ولدتك ما ولدتك دابا * أمك ولدتك لكافة أصحابا. كانت تلك تمنياتها، ومن ثم دافعها له ليقوم بمساعدة أصحابه كافة، وهم أهل السودان من أقصاه إلى أقصاه. وقد تحققت نبوءتها مثلما تقول وصال وتضيف أن “والدها تعلم درس الحياة الأزلي وهو الحرب ضد الجهل والجوع والمرض. ولذلك كانت المؤسسة الخيرية الأولى من نوعها، وكانت تدار من مكتبه بدار الطباعة مما دفعه للقيام بعمل مكتب خاص بالمؤسسة الخيرية حتى تتوفر الخصوصية والوقت لطالبيها. وكان هذا أول درس علمه لنا (الخبيئة في عمل الخير) .. وحين يرفع ناظريه نحو مدخل غرفة مكتبه كانت تطالعه لوحة بالآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ”. لقد حارب والدي الجهل لاعتقاده بأنه السبب الرئيسي للفقر الصحي والاقثصادي، فأقام المدارس لينهل طلابها العلم كيفما شاءوا أسوة بالمقتدرين ماديا بالمدينة. كان حبه لتراب هذا الوطن يصل إلى حد العشق الأزلي. أراد من خلال المؤسسة أن يقدم ما من شأنه أن يكون بصمة خير ترطب كبد فقير هذا البلد..”
-3-
ورغم أن مؤسسة السلمابي الخيرية مجمدة الآن، حيث كانت تعمل بنسبة 60% من أرباح أسهمه من شركة دار الطباعة وشركة دار التغليف فقد صار نشاطها مفرقا وسط أفراد العائلة بغرض الحفاظ على الإرث الخيري لكي يتيسر الحفاظ على المنشآت، والفكرة على حد السواء. وعلى كل ينبئ تاريخ السلمابي عن روح وثابة لمواجهة التحديات. فهو قد سد فجوة فقدانه فرص التعليم بمواصلة القراءة الحرة حتى أصبح صحافيا يشار إليه بالبنان داخل المهنة. فمن دوره كمراسل لمنطقة القضارف أثبت نجاحا، وغطى أحداثا، وقضايا هامة، حتى دعته أسرة الرأي العام إلى الحضور للخرطوم حتى يتفرغ إلى مزاولة الصحافة. وحين أتى إلى الخرطوم عمل في عدة صحف، وبالمزيد من المثابرة التي عرف بها تطورت مواهبه الصحفية التي غذتها شخصية لا تعرف سوى مراكمة النجاحات حتى أصبح رئيساً لتحرير “صوت السودان”. فكان صبورا على تجاوز المعوقات، والمتاريس، التي لاقاها كثيرا. وأخيرا تمكن في أن يكون نجما لامعا بجوار صحافيين كبار أمثال بشير محمد سعيد، وعبد الرحمن مختار، وسيد أحمد نقد الله، وعبدالله رجب، ومحمد الحسن أحمد، وآخرين.
عرف السلمابي بأسلوبه السلس في كتابة المقالات والتي ساهم مع أبناء جيله في تحويلها مفرداتها من الصبغة الأدبية إلى الصبغة المباشرة، أو السهل الممتنع. وتراه يكتب في إحدى مقالاته التنويرية فيقول: “يتخرج الطالب وأمله الوحيد أن يصير موظفا، ابن المزارع الذي يتخرج من المدرسة الوسطى يرى من العيب أن يعمل في الزراعة مع والده، ويظل عاطلا الشهور ربما السنين، باحثا عن وظيفة مهما صغرت. وابن الحلاق الذي وصل التعليم الثانوي يأنف أن يشتغل حلاقا، ابن النجار، أو ابن البناء، وبائع اللبن أو الخضار كلهم لا يبتغي عن الوظيفة بديلا، همه أن يسير أو يتسكع في بدلة وجزمة لامعة، ويحلم أن يجلس على مكتب في مصلحة من المصالح، بينما لو اتجه لعمل والده واستفاد من علمه وفكره في تطويره وتنسيقه لاستفاد وأفاد لو فكر في عمل قديم جدد فيه قليلا، مثل فتح ركن صغير يحمص فيه الفول السوداني ويلفه نظيفا في ورق سلوفان ويبيعه للراغبين وما أكثرهم، لكسب من ذلك أكثر مما تدره عليه الوظيفة التي يحفى في سبيلها..”.
وما يقول به السلمابي قبل نصف قرن هو التوجه الاقتصادي الجديدة المعروف في البلدان المتقدمة بالاستثمارات الصغيرة (Small Business). فمحلات الحلاقة، والنجارة، ومتاجر الفاكهة والخضار، والمطاعم، تمثل سانحة لمستثمرين برأسمال صغير وسرعان ما يتطور دخلهم، ورأسمالهم، ثم يشرعون في الدخول في استثمارات كبيرة. والحقيقة أن معظم المستثمرين في الغرب بدأوا من استثمار الأعمال الصغيرة ثم أصبحوا يملكون الشركات التي تصل أرباحها إلى بلايين الدولارات. ونعتقد أن ما أشار إليه السلمابي من استنكاف للمهن التي تقدم خدمات ضرورية للجمهور يعبر عن الكثير من تحقيرها في ذهننا الشعبي. فالمزارع، أو النجار، أو الراعي، أو الخضرجي، يلاقون المعاكسة من الحكومة، إذ يكون من سابع المستحيلات أن يجدوا الإعفاء الضريبي في وقت يهجر الأبناء مهن الآباء. وفي زمان يهجر الريفيون القرى الخصبة بسبب الحرب والتأثر بالمدنية لا يمكن أن يكون هناك مجال لأن نأكل مما نزرع، ولعلنا الآن نستورد الثوم، والطماطم، والحال هكذا ربما يأتي يوم نرصد فيه ملايين الدولارات لجلب الليمون!.
والقارئ لكثير من مقالات السلمابي التي كتبها في الخمسينات، والستينات، لحظة نضوجه الصحفي، يجد الكثير من الأفكار التنويرية التقدمية، والمعنية بنقد السلوك السوداني، ووضع بدائل لما ينبغي أن يكون عليه، سواء على مستوى الأفكار، أو التطبيق. ولكن يبدو أن السودان كان، وما يزال، مسيرا بواسطة قوى انتهازية تتكامل أدوارها لتهزم كل مشاريع الإصلاح التي نادى بها بعض نابهي جيل التأسيس أمثال السلمابي وغيره. إنها سيرة إنسان مميز هزم الفقر مرتان، وساهم بمشاريع تنمية لا يماثله فيها إسهام زعماء كبار ورثوا مئات الآلاف من الأفدنة الزراعية. ففي المرة الأولى لم يقعد دون مواصلة البحث عن المعارف خارج النظام التعليمي. أما في المرة الثانية فقد وقفت أعمال السلمابي الخيرية شاهدا على محاربته عجز الفقراء عن تمام الحصول على فرص العلم، والصحة.
salshua7@hotmail.com