الديمقراطية ليست عقيدة مقدسة و إنما هي افضل وسيلة حكم بشرية في العصر الراهن صاغها الإنسان من أجل الوصول إلى غاية هي العدل ، متى ما توفر العدل في اي صيغة حديثة مطروحة للحكم فستكون هي الصيغة المطلوبة من الجماهير . عملية التغيير نحو الديمقراطية عملية وعي و ليس حركة احتجاج ، لا يمكن الجزم بأن كل احتجاج سيتبعه بالتأكيد حكم ديمقراطي ، كما لا يمكن الوثوق من التحول الديمقراطي الكامل بمجرد الاطاحة بنظام دكتاتوري ، اذ لو كانت الاحتجاجات كفيلة باقامة انظمة ديمقراطية فما اكثرها و ما اقل نتائجها السريعة ، كذلك لو كانت الاطاحة بالنظام الدكتاتوري فقط تقود مباشرة إلى الديمقراطية المستدامة لما ضاعت الديمقراطية بعد الإطاحة بنظام عبود و نظام النميري .
رغم ذلك إلا ان حركات الاحتجاج و ثورات الاطاحة بالانظمة الدكتاتورية تقوم بدور حاسم و هو زيادة الوعي بالحقوق في اوساط الشعب و رفع مستوى الاستنارة بانظمة الحكم و العدالة لدى الجماهير وهذه تقود تدريجيا إلى التغيير ، نعم قد يكون تغييرا بطيئا و لكنه حتمي لأن حركة التاريخ تسير في هذا الاتجاه .
فشل توطين ديمقراطية مستقرة في بلادنا بعد ثورتي أكتوبر ١٩٦٤ و ابريل ١٩٨٥ دل على وجود مشاكل مزمنة في التركيبة السياسية و في الوعي الجماهيري و النخبوي بالديمقراطية ، و بصورة اساسية ظهر ان هناك مشاكل في بنية الأحزاب السياسية نفسها إذ أن الانقلابات جميعها صدرت من الأحزاب السياسية و ليس من المؤسسة العسكرية منفردة . السؤال الراهن هل حدث تغيير منشود في الجماهير و الاحزاب يجعلها مؤهلة للحفاظ على الديمقراطية و استدامتها؟ هذا سؤال جوهري و ضروري و هو بكل تأكيد أهم من الأسئلة المؤقتة التي تتحدث عن الوضع الاقتصادي و حركة الشارع ، و ذلك لأن استدامة الديمقراطية تاريخيا و تجريبيا ظهر انها الحل الأمثل للمشاكل الاقتصادية بما يوفره النظام الديمقراطي من عدالة في المنافسة و دعم شفاف من الدولة للإنتاج و تضاؤل نسب الفساد و المحسوبية و التمييز ، بينما النظام الديمقراطي هو الأكثر قدرة على تلبية احتياج الشارع و الجماهير من خلال المؤسسية و حكم القانون الذي يشعر كل مواطن بقيمته و يحافظ على كرامته و انسانيته التي كانت تنتهك بصورة يومية و منهجية في ظل الأنظمة الدكتاتورية .
العمل على رفع الوعي الجماهيري تدريجيا بالديمقراطية يتطلب عملا مؤسسيا اخر هو تأهيل الأحزاب السياسية مؤسسيا و ديمقراطيا عبر قانون احزاب يلبي تطلعات المرحلة الثورية و مرحلة التغيير نحو الديمقراطية يمنع تناسل و تكاثر احزاب بلا قيمة و لا تاثير و لا ديمقراطية ، كما يتطلب إصلاح منهجي لحركة الحقوق المهنية عبر قوانين و أجسام نقابية فعالة ، هذا العمل هو ميدان التغيير الحقيقي بعد الإطاحة بالبشير و هو الذي يحدد لمدى بعيد استدامة ديمقراطية حقيقية من عدمها ، فهل تستطيع ثورة ديسمبر إنجاز هذا التحدي ؟! .
sondy25@gmail.com