في محطة نادرة الحدوث .. التقى الشيخ عبدالحي يوسف، المحسوب على اليمين المتشدد، والحزب الشيوعي المحسوب في موقع رأس الرمح اليساري، في مقعد متجاور من زاوية الحدث.
الشيخ ومعه الشيوعيون اتفقوا على وصف لقاء البرهان ونتنياهو بالخيانة، مركزين تحديداً عل المفردة، لكن عبدالحي اعتبرها خيانة لله ورسوله .. والشيوعيين اعتبروها خيانة للشعب السوداني.
لا مشكلة، فما يهمنا أن كلا الطرفين تخندقا من حيث المبدأ ضد اللقاء، وبذا يتضح جزء من خارطة المواقف المهمة والمتباينة مما جرى.
ما ظهر جليا منذ بدء التسريبات عن الاجتماع أن الحكومة نفضت يديها عنه .. ورغم أنه كان موقفا سريعا يشي بخلاف مبكر قد يجر لما بعده بين شريكي الوثيقة، لكنه كان موقفا ذكيا يكسب معظم التيارات الفاعلة .. حتى تلك التي ترى أن التطبيع مع إسرائيل أمر تأخر كثيرا وليس له من مبرر في عالم المصالح.
لكن الآراء تشرذمت حول التطبيع أو عدم التطبيع مع إسرائيل، غاضين الطرف عن الإشكاليات القانونية حول اللقاء نفسه، وحول الصلاحيات التي يتمتع بها مجلس السيادة من حيث الإطار الدستوري الممنوح له بموجب الوثيقة.
تحدد الفقرة ٣ من اختصاصات وسلطات مجلس الوزراء وفقا للوثيقة الدستورية هذه السلطات بالقول : (ابتدار مشروعات القوانين، ومشروع الموازنة العامة للدولة، والمعاهدات الدولية والاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف).
وهذا ما يعني ضمنا أن مجلس السيادة يصبح خارج الوصف الوظيفي له حين يتعلق الأمر بالشأن الخارجي للدولة.
من جهة ثانية، فإن تبرؤ الحكومة مما جرى لم يكن موقفا ضد اللقاء بين البرهان ونتنياهو، لكنه كان ضد الخروج عن صلاحيات المجلس المحددة وفقا للوثيقة .. وهو موقف مبدئي أرادت به الحكومة قطع الطريق أمام أي اختراقات مستقبلية لنصوص الوثيقة، مثلما أرادت النأي عن أي ولوج في (تناقضات مواقف) إذا سارت الأمور مستقبلا في مسارات التطبيع.
إن التبرير الذي ساقه البرهان للقائه مع نتنياهو هو أنه قام بهذه الخطوة من واقع مسؤوليته بأهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني. وسيتطلب هذا التبرير جهدا جهيدا منه لأجل أن يصبح مقبولا في مواجهة صلاحيات محددة وصريحة أبانتها الوثيقة الدستورية للسيادي دون لبس.
ما يمكن تفسيره بأنه جنوح للتهدئة تأكيد البرهان على أن بحث العلاقة وتطويرها بين السودان وإسرائيل مسؤولية المؤسسات المعنية بالأمر وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية، مؤكدا أن موقف السودان المبدئي ثابت من القضية الفلسطينية وحق شعبه في دولته المستقلة.
إلى هنا ويمكن القول بأن موقف الحكومة وموقف البرهان لا يميلان للمصادمة والتأزيم، مفسحين مساحة لفهم عملي من واقع الممارسة فيما يختص بالصلاحيات، بل وحتى قوى الحرية والتغيير والحزب الشيوعي، المتذمر فيما يبدو من المشهد كله، لن ينحوا نحو التصعيد، فاللقاء بين البرهان ونتنياهو لن يكون له آثار ملموسة وسريعة على أرض الواقع، حيث لم تترتب عليه قرارات، ولا يمكن أن يكون له ثمار بعيدا عن يد الحكومة، لكن التصعيد قد يأتي من جماعات الاتجاه الإسلامي اليميني المتشدد وجناحهم السياسي المحلول المؤتمر الوطني، الذين تتهددهم ملفات الفساد والبيئة العدائية الطاغية التي تمسك بخناقهم، حيث ترتفع أصواتهم قدحا فيما جرى، رغم أن اللقاء جاء بعد سلسلة تواصلات سرية كانت قائمة بين النظام البائد وتل أبيب؛ تمهيدا لتطبيع قادم كان مرشحا للتسارع قبل سقوط النظام.